بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 آب 2020 05:20م مقارعة فرنسيّة تركيّة في لبنان.. وأشرعة بيروت تنعصف بين مدّ وجزر!

حجم الخط

على مرّ الزمان، لم يغب اللاعب الدوليّ عن أرضنا، بل كان حضوره التاريخيّ أساسيًا في تحديد مراكز القوى في هذه المنطقة المتأرجحة سياسيًا وأمنيًا. فلبنان تحوّل بفضل حكّامه، إلى أشبه بقطعة الجُبن التي يجري اقتسامها عند كلّ استحقاق، بدل أن يكون وطنًا جامعًا لكلّ أبنائه، سيّدًا على مصالحه وثرواته.

هذا الـ "لبنان" الذي يسقط بين الفينة والأخرى، عن سلّم الأولويّة الدوليّة في ظلّ تزاحم الاهتمامات، لا يغيب بتاتًا عن طاولة تقاسم مغانم النفوذ والولاءات، وهو ما ظهر جليًا إثر "نكبة بيروت الكبرى"، التي دمّرت ما تبقّى من أثر عمرانيّ لطالما تغنّى به اللبنانيّون، وفتكت بفتات أمل شعب مزّقته صفقات طبقة سياسيّة انتهجت التسويات والمحاصصة سبيلًا لخلاصها.

فما إن كاد "الانفجار" يطيح بمرفأ بيروت ومحيطه، حتّى سارعت دول عربيّة وغربيّة عدّة إلى مدّ "يد العون" إلى الشعب اللبنانيّ، الغارق أصلًا في أزمات تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بـ "كورونا"، مرورًا بالأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة الأكثر من كارثيّة.

سباق فرنسيّ تركيّ إلى بيروت

إلّا أنّ المواقف الأشدّ وقعًا على الساحة الداخليّة، كانت حضور الرئيس الفرنسيّ شخصيًا إلى بيروت، خلال أقلّ من 48 ساعة، وجولته الميدانيّة بين مرفئها وأزقّتها القريبة المدمّرة وأبنائها المتضررين، وحضوره السياسيّ بين أقطاب البلد وطرحه لمبادرة سياسيّة.

ثمّ ما تبع هذه الزيارة الفرنسيّة اللافتة، من وصول وفد من أنقرة في اليوم التالي إلى العاصمة اللبنانيّة، يضمّ نائب الرئيس التركيّ فؤاد أوقطاي، الذي قال إنّ الزيارة بمثابة "شيك مفتوح" لتقديم المساعدات. فيما أعلن وزير الخارجيّة مولود جاويش أوغلو، اعتزام بلاده إعادة منح جنسيتها للبنانيّين من أصول تركيّة.

هذه الزيارة التي لاقت استقبالًا شعبيًا في بعض المناطق البيروتيّة، تبعها بعد أيام، حضور وفد صحيّ تركيّ إلى بيروت أيضًا، تزامن مع تصريح لافت للرئيس رجب طيب أردوغان، اعتبر فيه أنّ ما يريده الرئيس الفرنسيّ "هو عودة النظام الاستعماريّ في لبنان"، "أمّا نحن، فلا يهمنا التهافت لتُلتقط لنا صور أو لنقوم باستعراض أمام الكاميرات".

تاريخ من التصادم

هذا "التناحر" أو "صراع النفوذ" بين باريس وأنقرة في بيروت، ردّه مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجيّة الدكتور سامي نادر إلى "تاريخ من التصادم التركيّ الأوروبيّ، وتحديدًا منذ الستينات، عندما كانت تركيا تسعى للانضمام إلى المجموعة الأوروبيّة. ثمّ ما أثاره في الفترة الأخيرة، رهان الرئيس رجب طيب أردوغان على الخيار الإسلاميّ، من مخاوف لدى الأوروبيّين".

"بالنسبة لفرنسا تحديدًا"، يضيف نادر في حديثه إلى "اللواء"، "هناك خشية اليوم، من الدخول التركي إلى مناطق تعتبرها باريس حيويّة، وهي في هذا الإطار، أقامت محور أو تحالف يضمّ أبو ظبي والرياض والقاهرة، في مواجهة المشروع التركيّ في أكثر من مكان، كسوريا وليبيا ولبنان".

د. سامي نادر: التسوية السياسية هشّة جداً وتحييد لبنان عن الصراعات ...

(مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجيّة الدكتور سامي نادر)

وردًا على سؤال حول ما ستؤول إليه التطورات على الساحة اللبنانيّة في ظلّ هذا "التنافس"، رأى المحلل الاستراتيجيّ أنّنا "سنشهد محاولات حثيثة من قبل أكثر من جهة للدخول على الملف اللبنانيّ، إذ ستتجاوز ما رأيناه من زيارات دبلوماسيّة ووعود بإعادة الإعمار، نحو بناء مناطق نفوذ".

لبنان.. ساحة جديدة للمتخاصمين

في ظلّ هذا الواقع اللبنانيّ الممدّدة أطراف تشرذمه، أوضح أستاذ التاريخ واللغة التركيّة في الجامعة اللبنانيّة الدكتور محمد نور الدين، أنّ "التنافس على الساحة اللبنانيّة، لا يقتصر فقط على تركيا وفرنسا، بل رأينا بعد انفجار بيروت، أنّ كلّ القوى المتخاصمة قد انتقلت إلى ساحة جديدة أخرى هي الساحة اللبنانيّة، لكن برز بشكل أكبر من غيره، التنافس التركيّ الفرنسيّ، حيث رأينا تلك الرسائل المتبادلة بين الطرفين. إذ سارع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى القيام بزيارة صاخبة إلى بيروت، بعد أقلّ من 48 ساعة على الانفجار. وما لبث الرئيس التركي في اليوم التالي للزيارة، أن أوعز إلى نائبه ووزير الخارجيّة بزيارة فوريّة إلى بيروت".

ماكرون حذّر زعماء لبنان من التدخّل التركيّ

الأكاديمي المختص في الشؤون التركيّة، أشار في حديثه إلى "اللواء"، إلى أنّه "إذا نظرنا إلى زيارة ماكرون على أنّها وقوف إلى جانب بلد فرانكوفوني، وغالبيّة المسيحيّين فيه تنظر إلى فرنسا على أنّها "الأمّ الحنون"، لكن في الوقت نفسه، كان لافتًا الموقف الذي اتّخذه ماكرون، ويقع خارج سياق الزيارة، خلال حديثه مع زعماء الأحزاب اللبنانيّة الذين التقى بهم في قصر الصنوبر، حيث حذّر من التدخل التركيّ في لبنان".

محمد نور الدين:

(الخبير في الشؤون التركيّة الدكتور محمد نور الدين)

نور الدين أكّد أنّ "فرنسا تنظر إلى لبنان على أنّه ساحة أخرى لمقارعة تركيا، وتركيا بدورها لم تتأخّر في الردّ على هذا الموقف الاستفزازيّ بالنسبة لها، فسارعت إلى إرسال وفد إلى بيروت، وتتالت المواقف التركيّة الرسميّة من أردوغان شخصيًا إلى غيره من المسؤولين، باعتبار زيارة ماكرون وسياسته تجاه لبنان سياسة استعماريّة، ولا تمت بصلة إلى البعد الإنسانيّ".

تنافسٌ سيزيد الأمور تعقيدًا

كما أضاف الأستاذ الجامعيّ: "أعتقد أنّ فرنسا وتركيا لا يوفّران ساحة لكي تقارع الواحدة منهما الأخرى، خصوصًا أنّ هذا الصراع المباشر والعلنيّ ليس جديدًا، بل يعود على الأقل إلى عشر سنوات سابقة"، مذكّرًا بأنّ رئيس الوزراء التركيّ السابق أحمد داوود أوغلو، كان دائمًا يقول "حيث ما يُرفرف علم فرنسيّ في العالم، سنجد مقابله علم تركي يُرفرف".

بالتالي، يشير الخبير في الشؤون التركيّة، إلى أنّ "لبنان دخل منذ انفجار الرابع من آب، كونه ساحة صراع وتنافس بين تركيا وفرنسا، على أمل أن لا يكون هذا الصراع على حساب الاستقرار فيه، بل أن يكون لصالحه"، خاتمًا بالقول: "مع ذلك، لا أرى أنّ هذا التنافس يصبّ في هذه الخانة، بل هو قد يزيد الأمور تعقيدًا على التعقيدات الموجودة أصلًا".

على وقع هذه التجاذبات، تنعصف الساحة اللبنانيّة التي يبدو أنّها قد دخلت منعطفًا جديدًا بعد "كارثة" الرابع من آب، ما بين مدّ المساعدات وجزر التدخلات، وسط شدّ حبال المصالح الدوليّة والإقليميّة في بلد أُنهكت أشرعته بفعل عواصف الأزمات، التي كلّما كاد يرسو على ميناء إحداها، رمته أمواجٌ أعتى من سابقتها.