بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 كانون الأول 2019 06:15ص جرائم الفساد البيئي تغزو لبنان

الكسارات أكلت الحجر وقتلت البشر الكسارات أكلت الحجر وقتلت البشر
حجم الخط
 ظَهرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلوا لعلَّهُم يَرجِعُونَ (آية 41 - سورة الروم).

جرائم الفساد البيئي في البقاع

يَعرِفُ جيلُ الأباء اليوم من اللبنانيّين ما لا يعرفه جيل الأبناء، ولا نتكلم هنا عن سويسرا الشرق التي ذهبت مع الأجداد، إنما نتكلم عن مشهد لبناني بامتياز، كان بحال رائع وبات بحال بائس، وهو السهل المنبسط بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، تلك المساحة التي تبلغ 428 ألف هكتار، أي ما يعادل 42% من مساحة لبنان الإجمالية والبالغة مليون هكتار.

سابقا، منظر خلاب كان يَسُرُّ عيون الناظر نزولا إلى سهل البقاع مِن أعالي منطقة ضهر البيدر، وكانت نظرة سريعة مِن نافذة السيارة كفيلة بزرع البهجة في نفس الرائي. مساحات شاسعة مِن الأراضي الزراعية، تتمايز فيما بينها بالألوان، فمنها الأخضر الداكن، الأخضر الفاتح، البرتقالي، الأصفر والزهري. كما كانت تتمايز فيما بينها أيضا بأشكالها الهندسية، فمنها المربع، المستطيل وما هو على شكل لسان يمتدّ داخل مساحات مختلفة ألوانها.

راهنا، باتت العينُ تدمع لِهَول بشاعة المنظر في السهل ذاته مِن النقطة ذاتها. فقد اختفت الأراضي الزراعية لتحلّ محلّها كُتلٌ اسمنتيّة، بعضها للسكن وبعضُها الآخر للمعامِل.

ينتج عن الوحدات السكنية العشوائية والمعامل الكثيرة في سهل البقاع كمّيات ضخمة مِن البراز والمخلفات الصناعية التي تتدفق وتختلط بمياه أكبر نهرين في لبنان، الليطاني والعاصي. أما ما تبقى مِن أراضٍ زراعية جنوب سهل البقاع فهي تُسقى بالمياه الملوّثة، فتحوّل سهل البقاع مِن سلة غذاء للبنان إلى مصدر غزير لنشر السرطان فيه.

إن لم يبكِ الناظر نزولا مِن مِنطقة ضهر البيدر باتجاه سهل البقاع، فلا بدّ له مِن أن يبكي بسبب مشهد آخر وهو واقف ذات الوقفة، حين يمدّ بصره أفقيا باتجاه سلسلة لبنان الشرقية. فعلى الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا قمم جبال مرتفعة، لم تعد كما كانت في الماضي. فلم تعد تلك الجبال بذات الارتفاع إنما انخفضت بنسبة خطيرة، سنبيّن خطورتها في الفقرة التالية، كما أن رؤوس الجِبال لم تعد لوحة فنية مِن صُنعِ الخالق بل باتت عبارة عن تآكلات عشوائية وتشوّهات تشبه آثار القضم بأنياب وحش كاسر. إنها نتيجة أفعال الإنسان، وجشع أصحاب الكسارات التي تعود ملكيّاتها إلى عائلات اجتمعت فيها صلات الإقطاع والسياسة ورأس المال.

خطورة تآكل رؤوس جبال السلسلة الشرقية

لم تكن خصوبة سهل البقاع مجرّد مصادفة أو ارتباطا بظروف متغيّرة، إنما صفة ثابتة وحصيلة حتمية لتدبير ربّاني شديد الإتقان والاتزان. فالغيوم هي الخزانات الطبيعية والمجانية للمياه، فلا يترتب عليها أكلاف الجمع والتحميل والنقل والتفريغ. وانطلاقا مِن الساحل اللبناني الطويل، دأبت الغيوم الناجمة عن بخار ماء البحر على الانتقال بصيغة سحابات وضباب، متفرّقة حينا ومتجمّعة أحيانا، لتعبُرَ مِن بين فراغات سلسلة جبال لبنان الغربية، فتتابع انتقالها شرقا حتى تصطدِم بحاجز صدّ منيع، مُحكَم وشديد الارتفاع، هو سلسلة جبال لبنان الشرقية. ثم تتكثف الغيوم فوق سهل البقاع لتُشَكّل مُناخا نموذجيا لتخصيب الأرض، فمصير الغيوم أن تمطر، لتتحول الثروة المائية إلى ثروة خيرات زراعية، قطوفها دانية.

للأسف، لم يعد الأمر كذلك أبدا، فكسارات آل «فلان وعلتان» قد نهشت قِمَمَ جبال السلسلة الشرقية، حتى صارت الغيوم تتجه نحو الصحراء السورية وتتبدّد هناك.


تلوث الليطاني.. لا بدّ من حل وإلا؟!



النعمة نقمة وأوّل الغَيثِ فيضان

أمطرت سماء لبنان قبل أيام فحلّت الكارثة وانقطعت الطرقات الساحلية، حتى غمرت السيول الطبقات السفلى من المباني والمحال التجارية والمستودعات، كما تحطّمت سيارات وآليّات كثيرة. أما الخسائر فقد بلغت حدا ينوء به المواطن اللبناني، المُتعَب أصلا بالظروف الاجتماعية، المعيشية، الصحية والنفسية.

تحديد المسؤوليات وسط المتاهة

اتّجهت أصابع الاتّهام نحو وزارة الأشغال لتُحَمِّلَها مسؤوليّة وقوع الفيضانات، على أساس انّ واجب تلك الوزارة تنظيف وتسليك مجاري الصرف الصحي العامّ وقائيّا بداية كلّ فصل شتاء، وقد جاء المطر ومعه الفيضان ليفضح تقصير تلك الوزارة، كما تقصير بعضِ البلديّات أيضا.

لا شكّ بأن اتهام وزارة الأشغال وبعض البلديات بالتقصير يأتي في محلّه، لكنّ ذلك ليس إلا جزءا مِن الحقيقة الأكبر والأخطر. ذلك أن الجزء المتبقي من الحقيقة وهو الأهم، لا يتناوله الإعلام ولا يتطرّق إليه الناس باستثناء بعض خبراء البيئة داخل قاعات مُغلقة، وفي سياق حلقات النقاش داخِل خِيَم الثوار مؤخّرا.

إنّ المسؤول الأخطر والأكبر عن مشاكل الفيضانات في لبنان، كما عن كلّ المشاكِل التي لا تُعَدّ، هو النظام السياسي القائم على المُحاصَصة والمُتَمَرسِ بالمذهبية. كيف لا وهو النظام الذي مِن جوفه تنبع جميع صنوف المُشكِلات؟!

الفيضان نِتاج حتمي للفَسادَين الإداري والبيئي

لا يصحّ حصر أسباب الفيضانات بتقصير وزارة الأشغال وبعض البلديات، إذ هناك مشاريع فساد عظيمة تم بموجبها قطع أشجار كثيرة في الأحراج والمروج، وتهشيم رؤوس الجبال على نحوٍ يُدمي قلوبَ العاقِلين.

مِن المعلوم بداهة ان التربة هي الإسفنجة التي تختزن ماء المطر، ومتى زالت التربة أو نقُصَت تسيل المياه بفعل الجاذبية نزولا، فتُحرَم المناطق المُرتفِعة مِنَ الخزن الطبيعي للمياه، فيما تغرق المناطق الساحلية بالسيول والفيضانات. قد يقول الرائي إنها مسؤولية وزارة الأشغال، لكن العارف يشير إلى الفساد العظيم على مستوى انتهاك الجبال بصخورها ورمالها وأشجارها.

في سياق مشاريع الفساد البيئي في لبنان، هناك أمران خطيران يتسبّبان بالسيول والفيضانات، ورغم الخطورة يحصلان باستهتارٍ حكومي مُستَغرَب، خاصة وأن هكذا أخطاء لا سبيل لمعالجتها بعد وقوعها على الإطلاق، فهي خطايا بحق الطبيعة تصيب كلّ أوجه الحياة بالضرر الجسيم والمزمن.

الأمر الأول هو قطع أشجار الأحراج والمروج على نحو يتسبب بانجراف التربة بصورة حتميّة، أمّا الأمر الثاني فهو عمل المرامل الذي يحرم قشرة الأرض مِن كميات كبيرة مِن التربة.

لم تعبّر الطبيعة عن كامِل غضبها بعد

إن غضب الطبيعة فيضٌ لم نشهد منه لغاية اليوم سوى غيضٍ يسير. ومع هطول بعض الأمطار بنسبة طبيعية كما عند كل بداية فصل شتاء، لاحظنا أن «شتوة بسيطة عملت فيضانات» ورأينا سيارات تنقلب وتغرق، كما لاحظنا اقتحام المياه للأدوار السُفليّة مِن الأبنية. أليس لتلك الأبنية أساسات تتضرّر بكميات المياه غير المتوقعة؟ أوليست تلك الأساسات تتأثر سلبا بانجراف التربة مِن حولها؟ هل سنتعجّب في القادم مِن الأيام إذا سمعنا بخبر مؤسف عن سقوط مبنى على مَن فيه؟!

لا نطرح هذه الأسئلة مِن باب التشاؤم أبدا، إنما هي خلاصة متابعة كرونولوجية للأحداث. فاستشراف المستقبل يُؤسَّس على معطيات تتحدث بوضوح، ويصغي إليها كل إنسان يتحلّى بالوعي، إلا أن التعبير عن ذلك يظلُّ مُستغربا في مجتمع اعتاد على أن «يشتغل عالصدمة» بعد وقوع الفأس بالرأس.. نسأل الله اللطف.

 * رئيس جمعية صون حق التعبير.