بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 كانون الأول 2019 12:03ص التربية في لبنان بين الأيديولوجيا والبيداغوجيا

هل باستطاعة التربية أن تَبني إنساناً وطنيّاً متّحداً؟ هل باستطاعة التربية أن تَبني إنساناً وطنيّاً متّحداً؟
حجم الخط
التربية هي أداة تكوين الشخصيّة الإنسانيّة وفق ثقافة المجتمع وفلسفته. فهي تسعى إلى جعْل الفرد يحمل خصائص هذا المجتمع ويتمكّن من مُواكبة مظاهر الحياة فيه. فالكائن الاجتماعيّ لا يُمكنه أن يعيش معزولاً عن محيطه، بل عليه أن يكون جزءاً منه يُشاركه مجموعة أفكاره وقيَمه السائدة. من أجل ذلك، يرسم كلّ مجتمع نموذجه التربويّ الخاصّ به.

يسعى كلّ مجتمع إلى توظيف كامل إمكاناته لتربية أبنائه كي يكتسبوا النموذج التربوي المُنبثِق من الأهداف التي تضعها السلطات الاجتماعيّة، دينيّة كانت أم سياسيّة أم اقتصاديّة، والتي تسعى إلى تحويل الكائن البيولوجي إلى كائن اجتماعي يتبنّى القيَم الدينيّة بكلّ مُعتقداتها، والنُّظم السياسيّة وأفكارها وقواعدها ومُمارساتها، والعلاقات الاقتصاديّة، والإنتاجيّة والاستهلاكيّة، وما يتطلّبه كلّ ذلك من مَعارف وعلوم وعادات وقيَم، وما يُنتجه من مشكلات اجتماعيّة على المستويات الطائفيّة والطبقيّة والسياسيّة. مع الإشارة إلى أنّ المُجتمعات في تطوّرها الدائم المتوازي مع التطوّرات التكنولوجيّة والمَعرفيّة والعلاقات الدوليّة هي بحاجة دائمة إلى تطوير نُظمها التربويّة ومَناهجها التعليميّة لكي تستطيع التعامُل مع التطوّرات الاجتماعيّة المحليّة والعالَميّة كالبطالة والعَولمة وما إلى ذلك.

بناء على ما سبق، يُطرح التساؤل: ماذا أنتجت التربية في لبنان بعد مئة عام على ولادة لبنان الكبير، وبعد ربع قرنٍ على إعداد خطّة النهوض التربوي وإطلاق المَناهج الجديدة؟

بُنيت السياسات التربويّة اللّبنانيّة على ما جاء في الدستور أوّلاً، ومن ثمّ على اتّفاق الطائف بعد انتهاء الحرب الأهليّة في تسعينيّات القرن الماضي. فقد سعى القيّمون إلى تحديد مواصفات أيّ مواطن يبغون بناءه وأيّ دولة يطمحون إليها، وذلك من خلال التمسّك بالمبادئ والقيَم المُتوارَثة، والتركيز على وحدة الأرض وسيادتها، واحترام الحريّات في التعليم والتعبير والعبادة، كما العيش المُشترَك والانصهار الوطني بين تعدديّة الطوائف.

من هذا المُنطلق، تشكّلت منصّة إنطلاق المَناهج الدراسيّة في العام 1946، ومن ثمّ في العام 1968، كما تكثّفت المساعي التي قام بها بعض رجالات السياسة أمثال رياض الصلح، ميشال شيحا، شارل حلو، فؤاد شهاب وغيرهم لبناء الدولة العصريّة وتغليب مبدأ المُواطنة على الطائفيّة. إلّا أنّ أيديولوجيا التعايُش بين الطوائف المتعدّدة ظلّت تُعيد إنتاج نفسها بظروف أكثر تعقيداً بحيث أدّت إلى إنتاج مُواطَنة ناقصة بدل تكوين مُواطَنة لبنانيّة تجمع كلّ فئات المجتمع. وقد توّجت النتائج بحربٍ أهليّة أدّت إلى تهديم الوطن حجراً وبشراً، وعزَّزت الانقسام الطائفي، وزادت المجتمع تشرذماً. لقد أثبتت الحرب الفشل الذريع للتربية اللّبنانيّة التي أعلنت أنّها تهدف إلى الانصهار والتعايش، وتبيَّن عدم جديّتها وعجزها عن تحويل الإنسان الطائفي إلى إنسان وطني. فمن الواضح أنّ الفكر الأيديولوجي قد تعارضَ مع الفكر الموضوعي، بحيث ظلّ الانصهار والوحدة والولاء للبنان شعارات فارغة وحبراً على ورق.

والسؤال الذي يُطرح اليوم : هل باستطاعة التربية أن تَبني إنساناً وطنيّاً متّحداً في ظلّ تاريخه الحافل بالطائفيّة والانقسام؟

التربية بين المُواطَنة والطائفيّة

لقد كان الهدف المُعلَن من التطوير الأخير للمَناهج اللّبنانيّة في العام 1997، دحْض مقولة أنّ النظام التربوي اللّبناني هو نِظام فاسد ومتخلّف، ينتج كلّ شيء إلّا الإنسان الوطني لا بل يُشكّل مَصدراً للإنسان الطائفي المتعصّب الذي سبّب للبنان الكثير من المصائب وهدَّد مصير الوطن. فقد أَعلنت الخطّة التربويّة والمَناهج الدراسيّة أنّها تسعى إلى بناء الفرد وتكوين شخصيّته الاجتماعيّة والمُواطنيّة انطلاقاً من حياته اليوميّة، ومُواكَبة الحضارة والانفتاح على الثقافات العالَميّة، كما ومُواكَبة التطوّر الحاصل في أسواق العمل عن طريق إدخال مواد جديدة تعزِّز الآفاق العِلميّة والعَمليّة للمُتعلِّم.

واليوم وبعد مرور ربع قرن على وضع خطّة النهوض التربوي حيّز التنفيذ نتساءل: أيّ تربية حصدنا؟ هل حصدنا أيديولوجيا الطائفيّة التي تغلغلت في نفوس الأبناء أم المُواطَنة الناقصة التي تقضي بتغليب حبّ الزعامات السياسيّة- الطائفيّة على حبّ الوطن؟ أم نظاماً اجتماعيّاً جامداً ممنوعاً من الحراك؟ أم نظاماً اقتصاديّاً فوضويّاً يتآكله الدَّين العامّ ويتخبّط بالفساد وضعف الإنتاج ؟

أمّا على الصعيد التعليمي، فيشهد لبنان في السنوات الأخيرة نِسباً عالية من النجاح في الامتحانات الرسميّة تفوق 90 % في الفروع الأربعة للثانويّة العامّة، فضلاً عن تخرّج عددٍ هائل من الطلّاب من الجامعات اللّبنانيّة. ماذا يعني هذا الأمر؟ أهو دليل كفاءة عالية وإنتاجيّة متميّزة؟ أم دليل انهيار النظام التعليمي وعدم كفاءته في إنتاج الكفاءة والجودة والمُواطَنة المُبتغاة؟

أمام هذا الواقع، لا بدّ من إجراء مُراجعةٍ لنتائج مُباريات الدخول إلى الجامعات العريقة ذات الخبرة والجودة العالية من جهة، ومن جهة أخرى، لا بدّ من قراءةٍ لسوق العمل اللّبناني ومدى قدرة هؤلاء الخرّيجين على تلبية احتياجات هذا السوق.

أضحى النجاح في الامتحانات الرسميّة هدفاً للعمليّة التربويّة في المَدارس الرسميّة والخاصّة، إذ يتمّ إعداد المتعلّمين على نماذج الأسئلة والإجابات المتوقّعة يحفظونها ويفرغونها على أوراق امتحاناتهم لينالوا أرفع العلامات، ولكنّهم في الواقع لا يمتلكون المهارات المطلوبة التي تخدمهم في حياتهم العِلميّة والعَمليّة. فهل هذه هي الكفاءة الإنتاجيّة التي يبغيها المعنيّون من المَناهِج اللّبنانيّة؟ وأيّ أجيال نُربّي؟

تسليع العمليّة التربويّة

أمّا من ناحية نتائج مُباريات الدخول إلى الجامعات، فقد علت الصرخة، وما زالت تتصاعد من بعض الكليّات، وخصوصاً تلك التي تعتمد على التحليل والابتكار ككليّات الهندسة على أنواعها وكليّات العلوم، وجعاً وألماً من التردّي في مستويات الطلّاب. وفي هذا السياق، دوَّنَ الدكتور طنّوس شلهوب خبرته بما شاهده على مدى ثلاثين عاماً وصولاً إلى حصد ثمار المَناهِج في نسختها الأخيرة. وأبرز ما جاء في مقالته «الشهادات الرسميّة وأيّ مصير للنظام التعليمي؟ (2018)».

«في تجربتي الشخصيّة كأستاذ في كليّة الهندسة في الجامعة اللّبنانيّة، وعندي من الخبرة الأكاديميّة ما يتعدّى الثلاثين عاماً، يُمكنني الجزم بأنّ تراجُعاً كبيراً قد طرأ على نوعيّة الطلّاب المُنتسبين إلى الكليّة، وأنّ هذه التراجُعات بدأتُ تلمّسها ما بعد العام 2000 أي بعد التعديلات التي أُقرَّت على بَرامج التعليم الأساسي والثانوي. ما يُمكن ملاحظته خلال هذه الفترة، أنّ الطلاب أصبحوا أكثر مَيلاً للتلقين وأقلّ استعداداً وقدرةً على التحليل. ناهيك بالتغيّرات في النظرة إلى العمل والمُثابَرة، بحيث تراجعت بشكلٍ كارثيّ المحفّزات للدرس والبحث والتفتيش ليحلّ مكانها الرغبة بتكريس التلقّي السلبي كشكلٍ وحيد للاكتساب المَعرفي..».

وليس بعيداً عن هذا القول، نسمع تصريحات للعديد من الأساتذة الجامعيّين الذين ينتمون إلى الجامعة الوطنيّة أو إلى جامعات خاصّة عريقة يشتكون من هذا الناتج السلبي الذي طاولَ إعداد المُتعلّمين في التعليم الأساسي، بحيث لم يُهيَّأوا للقيام بالبحث والتحليل بل أُعدّوا وفق الحفظ الببّغائي والتلقين بعيداً عن كلّ المهارات العقليّة.

وماذا عن الجامعات الخاصّة التي تتكاثر يوماً بعد يوم من دون حسيبٍ أو رقيب، فالبعض منها يبيع شهادات الاختصاص لطلّابها متجاهلةً النتائج الكارثيّة التي قد تحصل في سوق العمل، فهمّها الوحيد هو الربح المادّي. ونتيجةً للاستسهال في الانتساب إلى هذه الجامعات التي تستقبل الطلّاب الذين فشلوا في مُباريات الدخول في الجامعات العريقة أو أولئك الذين لا يملكون القدرات والمهارات الكافية لإكمال تعلّمهم العالي، لم تعُد عمليّة التعليم في هذا النّوع من الجامعات مرتكزةً على البحث والتحليل والنقد، بل باتت مجرّد شهادة تمنح حاملها اللّقب بلا جهدٍ وعناءٍ وتخوّله أن يطرق أبواب سوق العمل من دون أن يكون متسلّحاً بالتحصيل المَعرفي والمَهاراتي الضروريَّين.

وهنا أتساءل: لماذا يسمح النظام التعليمي بتحويل المتعلّم اللّبناني إلى سلعة تُباع وتُشرى في السوق التعليميّة بأبخس الأسعار؟

أمّا في ما يتعلّق بسوق العمل اللّبناني، فقد ضاقت مساحته بعدد الخرّيجين الجُدد الذين يتوافدون إليه حاملين الشهادات التي لم يتمّ إعدادها تبعاً لحاجات سوق العمل المحليّة أو الإقليميّة، الأمر الذي جَعل حامليها يغرقون في مُستنقع البطالة، أو يطرقون أبواب الهجرة. وفي المقابل، وظائف أخرى تَستنجد مَن يَمتهنها، إمّا لعدم توافر حملة اختصاصها، أو لقلّة المهارات والتدريب في ظلّ ضعف في آداء التعليم المهني والتقني ومستوياته المتردّيّة نتيجة الإهمال المُتراكم والنظرة الدونيّة تجاهه. ألا يحقّ للتعليم المهني أن يخضع للتطوير؟ ألا يجب أن يُعدَّل النظام التعليمي في لبنان بما يرتقي بالتعليم المهني والأكاديمي معاً؟

في النهاية، لا يُمكن إغفال النظر عمّا تلعبه التربية كمحرّكٍ لتطوير المجتمع كونها جزءاً من المنظومة المجتمعيّة. فمن خلالها يكتسب الفرد القيَم والمبادئ التي من شأنها أن تجعله مُواطناً صالحاً يساعد في بناء مجتمع صالح، ويكتسب أيضاً المَعارف والمهارات اللّازمة التي تجعله قادراً على المُشارَكة في عمليّة الإنتاج والاستثمار.

بالطبع! ما كان يصلح في الماضي بات لا يصلح اليوم، وما هو صالح اليوم قد لا يصلح للغد. لهذا، ونظراً لأهميّة التربية في بناء الإنسان والمجتمعات، وجَبَ لا بل من المحتّم إعادة النظر بها وهندستها بما يتلاءم مع تطلّعات الأبناء وحاجاتهم، ومع التطوّرات والتغيّرات التقنيّة والتكنولوجيّة الحاصلة، ناهيك بالانفجار المَعرفي الذي غزا تفاصيل الحياة. فبعد مرور قرنٍ على ولادة لبنان الكبير، وبعد مخاض المَناهج الدراسيّة، ماذا قدَّمت الأيديولوجيا للمتعلّم اللّبناني غير التشرذم والتعصّب والاستزلام، وماذا قدّمت له البيداغوجيا في ظلّ أوضاعٍ اقتصاديّة اجتماعيّة صعبةٍ سوى شحْذ الهمم نحو الهجرة إلى غربةٍ تقيه من كوابيس الفقر والحرمان؟

 د. بياريت فريفر

 أكاديميّة من لبنان