لسنا ندعي أننا أشرفنا على أسرار تأسيس الجمعية فإن ذلك أقر ضيق كثير الالتواء لا يخرج من تلمس جوانبه بحثاً وتفتيشاً إلا بنزر ضعيف. أما بعض الذين يدعون حرصهم على المقاصد فقد اضطربوا في كلامهم فاضطرب منطقهم وقصر نظرهم كأنه نقطة فوق نون.ومواقفهم مراء في الحق وإصرار على الباطل فلا يدعون سبيلاً إلا ركبوه ولا هوىً إلا حطّوا فيه وقد أمعنوا في المذاكرة وأطالوا في الخصومة وفخّموا ما شاءوا ومضغوا من الكلام ما ملأ أفواههم بما يناقض منطق العقل الذي لا يتكذب ولا يزيـــغ ولا يلتوي. فلا يرون إلا المثالب حتى وان أسفر الصبح وبقي بعضهم نياماً لا يرونه فمن نوم العمى في أعينهم وبصيرتهم مثلهم كمثل النجوم ذوات الأذناب.وما بعض الذين ينتقدون المقاصد وينشرون الشائعات عنها إلا كما يأخذ الاسفنج من الماء ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه ولا يثبت فيه شيء. ولا نغالي إذا قلنا بوجود خلفية سياسية علماً بأنه قلما تتخذ السياسة لها نعلاً إذا أرادت أن تضرب في الأرض إلا من جلود فاسدة وقوانين ممزقة. ولا شك أن لبعض الطاعنين قدره على تنويم إبليس تنويماً مغناطيسياً وإلقاء الآراء على لسانـــه.
هدف دراستنا ونحن نبحث وننقب ونحفر إعادة تركيب الأحجية وملء الفراغات والرد على التساؤلات بدءاً بالشك ثم الاختبار والاستنباط والاستقراء عبر قراءة عشرات المصادر والمراجع والمكوث بين دفتيها وتحليل ما يرد في صفحاتها حتى بدأت الملامح تظهر والقسمات تبين. ولا نزعم أن ما ذكرناه هو حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها إنما هو جهد متواضع لاستعادة اللحظة. ولمن يمكن قد أساء تفسير ما كتبنا بما لم يرد على خاطرنا ، فقد كنا رددنا بل وألححنا بضرورة إعادة كتابة تاريخ بيروت كتابة علمية مغايرة للكتابات التقليدية وجمعية المقاصد واسطة عقد هذا التاريخ على أقله منذ تأسيسها وفي المحطات التي مرت فيها ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة الذي أكد أن من اجتهد وأخطأ فله أجر وان أصاب فله أجران وأملنا أن ننال الأجرين : أجر الاجتهاد وأجر الإصابة.
أتى تأسيس المقاصد رد فعل على بيئة متخلفة علماؤها شيوخ طرق وأطباؤها حجّامون وحلاقون وأولادها يعتقدون بالخرافات ويصدقون المدهشات ويعجبون من كائنات لا تزور إلا في الظلام ولا ترى إلا في المنام ودليلنا ما أورده الفجر الصادق عن الحالة الاجتماعيـــــــة وما نظمه الشيخ قاسم الكستي لتعليم البنات.
ومنذ أن هبّت رياح الإصلاح ومشروعاته التي أطلقها مدحت باشا سارع كل من عليها الى تلقفها وتبنيها والإشادة فيها وبيان محاسنها وإظهار فوائدها ، فإذا ما تغير اتجاه الريح كثر من يتبرأ ويتنصل ويتمحل.
وكان متصرف بيروت رائف بك ممن تبنى ظاهراً أفكار مدحت ، وقد سبق أن نسبنا تأسيس المقاصد الى ثلاثة أشخاص هم متصرف بيروت رائف بك ونائب المدينة ( قاضيها ) عبد الله جمال الدين والمنسق بينهما حسن محرم بك أمين سر مجلس الإدارة. ونبدي في هذا البحث تأكيد دور الثلاثة المذكورين في اختيار مؤسسي الجمعية من أشخاص كانوا موظفين لديهم وخاضعين لسلطتهم.
ومن المؤسف أن أحداً من هؤلاء أو من الذين شارك منهم في شعبة المعارف الأهلية بعد حل الجمعية إثر تلقي الوالي احمد حمدي باشا أمراً من الاستانة بحل الجمعيات المسماة خيرية ومنها جمعية بيروت الأكثر تأثيراً كما جاء في رسالة قنصل فرنسا العام في بيروت لوزير خارجيته كما ان احداً من الذين واكبوا إعادة إحياء الجمعية سنة 1908 م أو تصدوا لسلطة الانتداب منذ سنة 1918م أن أحداً لم يترك مذكرات أو إشارات تفيد البحث.
فمتصرف لواء بيروت رائف بك هو موظف بإرادة سلطانية يخول الإشراف على الأمور الملكية والمالية والأمن ضمن دائرة اللواء وينفذ تعليمات والي سورية ويشرف على تصرفات ومعاملات موظفي اللواء كالمحاسبجي ومأمور الدفتر الخاقاني ومأمور النفوس.
وتمتع القاضي ( النائب ) بقسط وافر من النفوذ والاحترام فكان عضوا طبيعياً في مجلس إدارة اللواء وكان يُخاطب قبل المفتي بعبارات منها « أقضى قضاة المسلمين أولى ولاة الموحدين ، معدن الفضل واليقين ،رافع أعلام الشريعة والدين ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين المختص بمزيد عناية الملك المعين بيروت نائبي ( قاضي بيروت ) مولانا الخ «. ويشرف على باش كاتب المحكمة الشرعية وعلى كتابها وينظر في تعيين متولي الأوقاف وشيوخ الزوايا الصوفية والمؤذنين والخطباء والأئمة ويرأس مجلس تمييز اللواء الناظر بدعاوى الجنايات ويصدر أحكامها ، فلا عجب بالتالي ان قام المتصرف والقاضي بتذليل كل العقبات وتسهيل كل الصعاب وإزالة كل الحواجز ورفع كل الموانع من طريق تأسيس الجمعية ومباشرة عملها.
وإذا اعتبرنا خضوع أكثرية المؤسسين لسلطة المتصرف والقاضي الشرعي فليس من باب الألغاز والأحاجي بل بعين يقظة وبصيرة نافذة ، تبرر مدى مطاوعتهم وملاينتهم ومسالمتهم دون معارضة او مناوأة أو مشاكسة.
ولم يكن مدح قاسم الكستي لرائف بك عفو الخاطر أو رمية من غير رام أو تقرباً ولكنه أثبت حقيقة دور المتصرف رائف بك في تأسيس الجمعية وهنا نلاحظ أمراً بالغ الدقة غاب عن الجميع وهو الكشف عما فات القدامى والمحدثين في سيرة المؤسسين وعلاقاتهم بالمتصرف والقاضي الشرعي ولا حاجة بعد ذلك لاستعارة تعبير تردده العامة وهو « جسّ نبضهم «. ومن المفيد ان نلقي ولو حزمة من الضوء على أوضاع المؤسسين ووظائفهم وعلاقة كل منهم بالمؤسسين الحقيقيين.
قرأ البيارتة سنة 1876 م في ثمرات الفنون نقلاً عن جريدة البصيرة العثمانية ان مأموري جزيرة رودس وأعيانها وتجارها جمعوا 465 ليرة لآجل إنشاء مدرسة للمسلمين بوشر ببنائها بحضور متصرف الجزيرة رائف أفندي. ويبدو أن الأخير أراد بعد تعيينه متصرفاً في بيروت نقل تجربة رودس الى بيروت.
وإذا وجب علينا مدح المؤسسين الظاهرين والحقيقيين فان المدح في كل زمان ما رفع قدر مشئم ولا يمان وما الذي أفاد رسول الله عليه وسلم لما امتدحه كعب بن زهير وحسان بن ثابــت ؟ ولكن الحقيقة أحق أن تتبع. ولو ان كل أحمر يقول أنا الورد ، لما بقي للورد معنى إلا أن يكون فجلاً في رفوف باعة الخضار.
فئات المؤسسين من الإداريين والعاملين
في المحكمة والتجار
توزع المؤسسون على ثلاث فئات.الفئة الأولى الموظفون الإداريون الخاضعون لسلطة المتصرف ومجلس الإدارة والفئة الثانية العاملون في سلك القضاء الخاضعون لسلطة القاضي الشرعي والفئة الثالثة هم التجار الذين يسعون دائماً لنيل رضا السلطة تيسيراً لأعمالهم وحفظاً لمصالحهم.
فمن الإداريين حسن محرم بك أمين سر مجلس الإدارة وبشير البربير أحد كتّاب نظارة الرسومات وهاشم الجمال الذي تنقل وأولاده في عدة مناصب ومحمد دية الموظف في مجلس الإدارة ومحمود رمضان شقيق عارف الدفتردار وابن عبد الغني كبير التجار وشقيق بشير ومصباح وعبد البديع اليافي ومستخدم من تحرير الأملاك بوظيفة باش كاتب وعبد القادر النعماني عضو المجلس البلدي.
ومن الذين بإمرة القاضي الشرعي عبد اللطيف حمادة مدير أوقاف لواء بيروت وسعيد الجندي العامل في المحكمة الشرعية ومتولي خطابة وإمامة مسجد شمس الدين. ومحمد اللبابيدي مأمور إجراء بيروت ومصباح محرم رئيس كتاب محكمة بداية بيروت وأحمد دريان وسعيد طرباه من المعتمدين كخبراء لدى القاضي الشرعي. وكان راغب عز الدين نائباً للقاضي الشرعي ومحمود خرما ابن عبد الله خرما متولي أوقاف الجبانات ومحمد الفاخوري ومحمد المغربل العاملين في التدريس.
أما التجار فكان منهم عبد القادر سنو وحسن بيهم وخضر الحص ومصطفى شبارو وحسن الطرابلسي وطه النصولي وعبد الله غزاوي ابن عمر غزاوي اول من أولم لمدحت باشا.
وكان عبد القادر قباني ينشر في ثمرات الفنون أخبار المقاصد.
لا يمكن أن يقال ان المؤسسين اجبروا على المشاركة في تأسيس الجمعية فكل واحد منهم كان يشكو مما وصل اليه المجتمع من تخلف وجهل إلا ان أياً منهم لم يذكر له رأي في حلّ الجمعية.وقد مرت المقاصد بأزمات فلم نجد من بعض من عاش في خيرها وتصدر هيئتها وتباهى بانتمائه اليها ، من مد اليها يد المساعدة بل وضعوا أصابعهم في آذانهم وعقدوا ألسنتهم :
كأن لم يكن بين الحجون والصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ
ولمعرفة النتائج التي وصلت اليها مالية المقاصد يقتضي الوقوف عندما سببته الحرب الأهلية لعقاراتها وما سببته لماليتها الحرب السياسية التي تعرضت وتتعرض لها.
وقد تبين من الأحداث الأخيرة التي قادها الرئيس الفخري للجمعية سماحة المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان ان طلاب مدارس الجمعية ومعلميها أشد حرصاً على مسيرة المقاصد أكثر بكثير من بعض السياسيين الذين يدّعون وصلاً بليلى.
محامٍ ومؤرخ