وقفت على مشارف المكتب... مكتب سيادته أو معاليه أو سماحته، قل ما تشاء، أطلب فرصة اللقاء لقضاء حاجة هو مرجعها لأجد هامة بشرية تحتلُّ منصب السكرتير أو مدير المكتب، ارتفع أنفه حتى وصل إلى معقد الحاجبين فاستجوبني حول ما أريد ودوّن ملاحظات رماها بعد ذلك في سلة المهملات، وأخذ مني العنوان ورقم الهاتف المحمول ليقنعني أنه سيتصل بي حتما لتحديد موعد اللقاء الذي تمنّته نفسي ومرّت الأسابيع والشهور فلا اتصال ولا لقاء..!؟
هذا السكرتير أو مدير مكتب سيادته أو معاليه أو سماحته... هو عضو جمعية الظالمين الجلّادين في مجتمعنا، هو حارس بوابة القهر وأداة الإذلال يمنعنا من الوصول للمسؤول، ويجلدنا بقسوة كلماته ويخدّرنا بوعوده الكاذبة ويرمي أمانينا في سلة المهملات.
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية لما أتاه الجلّاد في سجنه بدمشق وقال له: اغفر لي يا شيخنا فأنا عبد مأمور... فقال له ابن تيمية: والله لولاك ما ظلموا..
ورحم الله الإمام سفيان الثوري لما أتاه خياط فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟.... فقال له سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم.... و لكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط..
وجّه حارس السجن سؤالا إلى الإمام أحمد بن حنبل حين كان مسجونا فقال له: يا إمام، قرأت علينا بعد الصلاة الحديث الشريف «من أعان ظالما على ظلمه سلّطه الله عليه»، وها أنت تراني، مجرّد حارس يفتح باب السجن ويغلقه، هل أنا ممن يعين الظالم على ظلمه؟... قال الإمام أحمد: لا، الذي يعين الظالم هو الذي يقصّ له الشعر ويخصف له النعل، أما أنت فأنت الظالم نفسه، ماذا يفعل الظالم بغير السجّان والجلّاد؟
هؤلاء الموظفون الذين خلعوا جلودهم ولبسوا غيرها... نسوا أنهم ومن يطرق أبواب مكاتبهم سواسية... من بيئة واحدة... من طينة واحدة... نسوا أن من يحتاج إليك اليوم قد تحتاج إليه غدا... «وتلك الأيام نداولها بين الناس»...
نسوا أن التكبّر والتجبّر عاقبته أليمة... وأن قهر الناس جريمة... وظلمهم للناس سينقلب عليهم يوما ما... وأن الظلم ظلمات...
لا شفقة لمن يحمون الطغاة «لولاهم ما ظلموا».. لا اعتبار بأنهم مجبورون على ظلم غيرهم، لا تفسيرات لأحقادهم الدنيئة من رأس الأفعى إلى ذيلها، كلهم سواسية لا يكترث المظلوم في الزنزانة بالحاكم الظالم بقدر ما هو منشغل بالدعاء أن تشلّ يد معذّبه وجلّاده، فكلاب وحاشية الظالم هم أسوأ من الظالم نفسه، وهذه الأقوال سجلها التاريخ وتناسيناها.. فاللهم إني أعوذ بك أن أَظلم أو أُظلم أو أجهل أو يُجهل عليّ.