بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 آذار 2020 12:04ص أيام بيروتية (19): القشلة العسكرية الهمايونية والخسته خانة الشاهانية

الخسته خانة الخسته خانة
حجم الخط
إثر حوادث سنة 1840م في الجبل وبعد انسحاب إبراهيم باشا من بلاد الشام في عهد السلطان عبد المجيد، أدركت السلطة المركزية في الآستانة أهمية موقع بيروت، فقررت وضع فرقة من جيشها في المدينة، واختارت التلة الواقعة فوق بوابة يعقوب والتي تطلّ على المدينة وتشرف عليها، لكي تكون موقعاً لثكنة عسكرية عرفت بالقشلة الهمايونية أو الموقع العسكري.والقشلة من قشلق أي معسكر شتوي وهو لفظ تركي. 

وقشلة وقشلا من كلمة قيش بمعنى الشتاء والجمع قشلات. وكانت قد سبقتها ثكنات أقامها إبراهيم باشا سنة 1832م داخل بيروت في المحلة الواقعة بين شارع المصارف الحالي وشارع الكبوشية وعرفت بمحلة التكنات. وقد لفظها البيارتة بالتاء فقالوا «تكنات» وأطلقوا هذه التسمية على الهيكل الخشبي الذي كان يقام فوق السطوح ليحمل القرميد.

تشير الوثيقة الشرعية المؤرّخة في غرة رجب الفرد سنة 1265هـ/ نيسان 1849م إلى تأجير «جل كائن فوق بوابة يعقوب بالقرب من برج الجديد المعروف الآن (أي سنتها) بالقشلة الشهير ما ذكر خارج المدينة...» ويستدل من عبارة «المعروف الآن» الواردة في هذه الوثيقة، أن القشلة شيّدت سنة 1849م أو في السنة التي سبقتها أي 1848م. ومنذ إنشاء الثكنة المذكورة، صارت المنطقة تعرف بمحلة القشلة من باب إطلاق الجزء على الكل. ووصفها بالبرج الجديد يدل على وجود برج قديم في التلة المشار إليها.

ويبدو أنه بعد إنجاز البناء، طلب سنة 1269هـ/1852م من الشيخ ناصيف اليازجي نظم تاريخين له، لينقش أحدهما على الباب الخارجي والآخر على الباب الداخلي، فقال لأجل الباب الخارجي:

مليك الورى عبد المجيد قد ابتنى مقاما لأنصار الجهاد مشيدا

على بابه خطّ المؤرّخ قائلاً سلام عليكم فادخلوا الباب سجدا

وقال لأجل الباب الداخلي:

شادها عبد المجيد المصطفى    صاحب الملك أمير المؤمنين

 فدعا تأريخنا أنفارها               ادخلوها بسلام آمنين

يذكر ان بناء القشلة مشابه لبناء المستشفى العسكري وهو طراز طبّق في مختلف المدن أيام الحكم العثماني. وهو عبارة عن مبنى من طابقين عادة مستطيل الشكل ضمنه في وسطه فسحة سماوية. تدخل الشمس الى غرف الضلع الطويل الشرقي قبل الظهر وتدخل بعد الظهر الى غرف الضلع الغربي. ويلاحظ هذا الطراز في المدرسة السلطانية أي المبنى التي شغلته كلية المقاصد الخيرية الإسلامية للبنات في محلة قبر الوالي.

وتألّف البناء من طبقة أرضية للجنود وطبقة سفلية للخيول، ثم أضيفت طبقة ثانية علوية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ونشير هنا الى ان بعض أعيان بيروت ووجهائها كانوا مرة في زيارة الى دار السعادة في الآستانة ووقفوا موقف التبجيل في الموكب السلطاني. فسأل السلطان عبد الحميد؟ من هؤلاء فقيل له من بيروت. فقال: ان البيروتيين يحبونني وأنا أحبهم. وارتبط اسمه بالكثير من المشاريع في بيروت.

وقد شهدت الثكنة العسكرية التحقيقات والمحاكمات التي جرت إثر حوادث الجبل الطائفية سنة 1860.

وقبل إنتهاء الحكم العثماني قام والي بيروت عزمي بك بتحويل القشلة الى مقر للحكم عرف بإسم السراي الكبير وبعد الانتداب اتخذه المفوض السامي الفرنسي مقراً له، وأضيفت إليه الشرفة الشمالية التي كان يطلُّ علينا منها رئيس الوزراء اللبناني لمخاطبة المتظاهرين الذين لم تكن الأسوار الاسمنتية ولا الأسلاك الشائكة الحديدية تفصلهم عن الحاكم.

الخسته خانة الشاهانية وإسهام أطبائها الأتراك في خدمة بيروت

نشأت الحاجة بعد بناء القشلة العسكرية إلى مستشفى للعساكر. ويبدو من الوثائق الشرعية أن هذا المستشفى أنشىء مباشرة عقب إنشاء الثكنة. فالوثيقة المؤرّخة في 17 جمادى سنة 1266 هـ/ كانون الأول 1850م متعلقة بتحرير تركة «صادق نفر عسكري باش بزق قبسيس المتوفى في خستخانة بيروت» وخسته خانة من الكلمتين خسته وتعني مريض أو مرض وخانة وتعني دار أو مكان. وأطلق على مستشفى بيروت إسم «خستخانة بيروت الشاهانية» وكانت العامة إلى وقت قريب تسمّي المستشفى خستخانة أو أستخانة وتقول عن المريض انه مخستك. وقد ضمّ المستشفى العسكري أمهر الأطباء في الدولة العثمانية، كإبراهيم أفندي طبيب العساكر الشاهانية الذي اشتهر في معالجة أمراض المسالك البولية وتفتيت الحصى. وذاعت منذ سنة 1886م شهرة محمد خيري بك إبن رفعت باشا الطبيب الأول في الخستخانة، وإبراهيم حقي بن علي يمني طبيب العيون فيها، وصالح أفندي إبن علي يوسف الروسلي جراح باشي (أي رئيس الجراحين)، وكان مدير المستشفى حسين أكاه بن محمد الإسلامبولي القول أغاسي وإمامها الشيخ عبد الهادي إبن الشيخ عبد المنعم النصولي.

وضمّ بناء المستشفى العسكري صيدلية كان حسين أفندي إبن سليمان إبن الشيخ محمد - من كليبولي – باش أجزائي فيها سنة 1298 هـ. كما ضمّ المبنى حماماً أعدّته إدارة المستشفى للأجرة بعد أن جدّدته وأصلحته، كما ضمّت فرناً لخبز العسكر وأعدّت للأجرة أيضاُ المخازن الواقعة تحت المبنى. وكانت المستشفى بإدارة توفيق أفندي حتى سنة 1328هـ.

قدّمت الخسته خانة العسكرية خدمات طبية للعساكر وللمدنيين البيارتة وسجل اطباؤها انجازات طبية هامة. ففي نيسان 1858م قام إبراهيم أفندي سر هزار الطبيب الأول في دار شفاء العساكر الشاهانية باستخراج حجر من مثانة ولد يدعى فارس عقل من نواحي البترون بلغ وزنها نحو أربعين درهماَ. وكانت غريبة في تركيبها وشكلها فقد بدت على شكل الكمثرى الطويلة. وذكر ان العملية استغرقت دقيقتين لا غير وقد سمح للمريض بأن يمشي على قدميه بعد ساعتين.

وكان لإبراهيم بك الطبيب المذكور مساهمة في علاج الحمى المتقطعة المعروفة عند العامة بالبردية التي شاعت في بيروت في خريف سنة 1859م. وهذه الحمى تعرف بأدوارها الثلاثة المتقطعة: البرد والحرارة والعرق. وكانت تعالج بشرب المعرقات وبملح الكينا، فقام الطبيب المذكور بشفاء عدد كبير من المرضى بشرب القهوة مع عصير الليمون الحامض بمعدل ثلاثة فناجين يومياَ. وكان الطبيب المشار إليه قد أعلن سنة 1868م «ان صناعة الطب الآن يتاجر بها كثير من المدّعين... الذين غدوا يتاجرون بها وصار يصعب على المريض دفع ما يستحقه الطبيب» وأضاف «لما كان من الواجب على الطبيب إجابة طلب المريض فانه إذا دعي الى مريض فلن يذهب قبل دفع ما يتوجب ما لم يكن المريض فقيراُ». وكانت لإبراهيم بك عدّة مؤلفات منها واحد بعنوان «مصباح الساري ونزهة القاري».

وقد جرت سنة 1881م محاولة لم تنجح لنقل المستشفى العسكري، وكان ذلك بمناسبة طرح السراي القديمة للبيع (أي السراي التي أقيم محلها سوق سرسق) فكان في تصوّر والي سورية في حينه نقل دوائر الحكومة وإدارة التلغراف إلى مبنى المستشفى وبناء محل للمستشفى في رأس بيروت لحسن هواء هذه المنطقة على أن يبنى من ثمن مبيع السراي.

وفي سنة 1887 كان مدير الخسته خانة حسين آكاه القول اغاسي مديرا للمستشفى والشيخ عبد الهادي النصولي إماماً لها.

يذكر انه حصل في ربيع الثاني سنة 1305هـ/1888م نزاع بين عساكر في القشلة الهمايونية نتج منها ضرب أحد العساكر في عينه فجرى الكشف عليه من «حذاق أطباء المسلمين محمد خيري بك ابن محمد رفعت باشا الطبيب الأول في خسته خانة بيروت الشاهانية وإبراهيم حقي أفندي ابن علي يمني بك الطبيب في الخسته خامنة..».

وعندما عمّت الوافدة وأبو الركب بيروت سنة 1889م، ترأس خيري بك سر طبيب المستشفى العسكري لجنة لفحص طلاب المدارس ضمّت طبيب الكرنتينا وطبيب البلدة والطبيبين أديب قدورة وسليم الجلخ وعضوين من مجلس المعارف. وفي سنة 1892م قامت إدارة المستشفى العسكري بخطة إنسانية رائدة، فأعدّت في الجهة الغربية من مبنى المستشفى دائرة خصصت لمعالجة المرضى المحتاجين والفقراء والغرباء، فكان كل من يردها بمعرفة أطباء المستشفى، يُعطى الوصفة مجاناً وذلك يومياً من الصباح إلى المساء.

واستفادت بيروت من خبرة ومهارة أطباء المستشفى العسكري. ففي سنة 1901م كان الجراح «رفعتلو منير بك» يعاين الفقراء في صيدلية الهلال لصاحبها سليم فاخوري أول صيدلي في بيروت والمتخرّج سنة 1890م من اسطنبول. كما كان الدكتور عبد القادر سليم بك المتخصص بتطبيب أمراض العين والأذن والحنجرة (قبل أن يختص كل الطبيب بعضو منها على حدة) في المستشفى العسكري يعاين الفقراء مجاناً في الصيدلية المذكورة. وكان الدكتور عثمان بك طبيب العيون سنة 1911م في المستشفى العسكري يعاين أمراض العين في صيدلية اسطنبول قرب سراي الحكومة وذلك يومياً ويعاين الفقراء مجاناً يومين في الاسبوع. 

وتجدر الإشارة الى انه في أيلول سنة 1911م توفي توفيق بك مدير المستشفى العسكري في بيروت فقامت زوجته الحاجة جميلة قابلة البلدية بإذاعة ورقة بسيطة تنعيه بها الى أصدقائه وذويه ومحبّيه رغبة بإعلامهم بوفاته وبوقت دفنه. وكانت هذه أول نعوة صدرت من هذا القبيل في بيروت ثم سار العمل بها الى يومنا.

الحاجة جميلة قابلة البلدية

كانت الحاجة جميلة قابلة البلدية وزوجة مدير المستشفى العسكري، وقد أذاعت سنة 1911م ورقة بسيطة تنعي بها زوجها إلى أصدقائه وذويه رغبة بإعلامهم بوفاته ووقت دفنه. وكانت أول نعوة صدرت من هذا القبيل.

وبعد سقوط الدولة العثمانية تحوّل مبنى الخستخانة إلى مقر للمحاكم، وشهدت قاعاته أشهر المحاكمات والمرافعات في تاريخ لبنان الحديث. كما شهدت ساحته الداخلية دردشات أشهر المحامين ولا سيما السياسيين منهم كما سنذكر ذلك في محله. وقد أدركت العمل في هذا المبنى كمساعد قضائي سنة 1963م قبل نقل المحاكم الى قصر العدل الحالي في منطقة المتحف (كرم رحال). ويشغل مجلس الإنماء والإعمار المبنى حالياً. 

 * مؤرّخ