بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 آب 2019 12:04ص إنها مدرسة الهِجرَة

حجم الخط
الشيخ محمد الخانجي*

تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة، وإطلالة عام مبارك بإذن الله، بعد ما تغرب شمس عام كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرّمت أيامه، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرّم الشهور والأعوام، لكن الموفَّق الملهم من أخذ من ذلك دروساً وعبراً، وإستفاد منه مدَّكراً ومزدجراً، وتزوّد من المَمَرِّ للمقر، فإلى الله سبحانه المرجع والمستقر، والكيّس المُسَدَّد من حاذر الغفلة عن الدار الآخرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرّة، فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، والله نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين، وصلاحاً لأحوالهم في كل مكان، وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين، إنه جواد كريم.

إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البيّنات، والآثار النيّرات، والدروس والعبر البالغة، ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق، لتحقق لها عزّتها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزّة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين.

إن من أجلِّ حوادث السيرة وأحفلها بالفوائد وأغناها بالمعاني نبأ الهجرة الشريفة من مكة إلى المدينة، تلك الهجرة التي غيَّرت مسار التاريخ، وكان لها أعظم الآثار في إقامة المجتمع الإسلامي وبناء الدولة الإسلامية؛ ذلك عندما حال كفار قريش بين رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وبين تبليغ رسالة ربه بشتى ألوان المحاربة والصدِّ عن سبيل الله؛ فتارة بالتشويش على كتاب الله تعالى وإثارة الشغب عليه، في محاولة لمنع تأثيره في النفوس كما حكى سبحانه ذلك بقوله عزّ وجلّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.

وتارة باللجوء إلى سلوك طريق السخرية والاستهزاء والغمز واللمز، الذي طالما اعتاد سلوكها المجرمون الطاغون في كل زمان: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.

إلهامات للسائرين في درب الدعوة

تحمل حادثة الهجرة النبوية - على صاحبها أشرف الصلاة وأتم التسليم - الكثير من الإلهامات للسائرين في درب الدعوة إلى الله تعالى، فهي أنموذج ربّاني من البذل والتضحية وهضم النفس في سبيل الوصول إلى الغاية الكبرى التي من أجلها خلق الله هذه الدنيا، وقد تُثار في النفس تساؤلات واندهاشات عدّة عن أحداث السيرة بتفاصيلها النوعية، فما المعنى في أن يترك العبد دياره وأرضه التي نشأ بين جنباتها، والتي بين كل ذرة من ذرات ترابها ذكرى من أيامه السالفة، عَذْبَةٍ أو مُرَّة لا يهم، المهم أنها ذكرى محفورة في ضميره يستحضرها كلما هبّت نسائم ذلك البلد، أو اشتم عبق القادمين من جهته!!

فما المعنى في أن يهجر الإنسان أهله وماله وعشيرته لينزل أرضاً جديدة لا يعرفها بلا مال ولا مأوى ولا عشيرة؟!

لقد هرب كثير من الناس من واقع الحياة وظروفها، فهذا تخلّى عن واجباته الأسرية تجاه أولاده وأهله، وآخر هرب من واقعه وتنازل عن أخلاقه تماشياً ومسايرة للواقع، وآخر هرب من واقعه ودفن رأسه في الرمال يرى واقع أمته ومجتمعه في خطر محدّق وفساد مستشرٍ، فلم ينصح أو يوجّه أو يساهم أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، فآثر السلامة فيما يبدو له، لكن ذلك هو الضعف والذل والقصور في فهم الدين ونواميس الكون وسنن الحياة، أين هذا الإنسان وأمثاله من تلك النملة الصغيرة في الوادي المترامي الأطراف، وقد رأت جيش سليمان - عليه السلام - قد قرب من مجتمعها وبلادها وأهلها، فصاحت محذّرة قومها وبني جنسها، محذّرة إياهم من هذا الخطر؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

فأين الإيمان وأين هذه العقيدة السليمة التي تربّي المسلم على القوة والعظمة والخيرية والبذل والعطاء؟! أين هذا الإيمان في قلوب المسلمين اليوم؟!

تحقيق الإيمان

يجب أن يدرك المسلمون أن سبب عزّتهم وقوتهم وثباتهم على الحق تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمّل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التاريخ يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتساهل في جانب الثوابت المعنوية مهما تقدّمت الوسائل المادية، فقوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقاً في الثقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، هذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ينظر إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيجيبه صلى الله عليه وسلم جواب الواثق بنصر الله: «يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

إننا نشعر بالحاجة للتعامل مع الذكرى المتكررة بمكونات جديدة مبتكرة، نشعر بحاجة لأن نعيش الحادثة الماضية بعناصرها وعواملها، وتفاصيلها وتداعياتها، لتبدو لنا كأنها حاضر نعاصره. ونشعر بحاجة لأن نعيش حاضرنا الحالي مع استحضار العبرة الحيّة من الماضي، فذكرى الهجرة ذكرى لحادث قد مضى، لكن فيه من العبر ما نحتاجه في حاضرنا الذي نرى فيه حوادث داهمة، تتحدّى الفكر والفقه، وتتطلّب السعي والمسابقة، لأننا في هذه الحوادث بين خيارات حاسمة تتراوح بين التراجع الخطير والنصر العزيز.

نسأل الله أن يمنّ علينا بنصره، كما منّ على النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر حين نصره: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار}.

* إمام وخطيب مسجد قريطم