بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 شباط 2019 12:03ص الإســلام... وصلــة الأرحــام

حجم الخط
الشيخ د.يوسف جمعة سلامة*

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا لَهُ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : أَرَبٌ مَا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم : تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاة،َ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ)، وهذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الأدب، باب فضل صلة الرحم. من المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف دعا إلى صلة الأرحام ورغّب فيها وحَثَّ على الالتزام بها، وقد أكدت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذلك، حيث يتبين لنا مدى حرص الإسلام على صلة الأرحام،  فصلة الأرحام تعمل على تقوية الروابط بين الأهل والأقارب والأحباب، وتنشر المحبة والمودة بينهم، فينشأ المجتمع قوياً متيناً متحاباً تسوده الأخوة الإيمانية والروابط الأخوية، ومن حق الأرحام  علينا صلتهم وتفقدهم بالزيارة والعطف عليهم والإحسان إليهم وقضاء حوائجهم وَدَفْع الضُّرِّ عنهم، فصلة  الأرحام من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى؛ لينال الأجر والثواب والسعادة في الدنيا والآخرة .
فضائل صلـة الأرحام
لقد اهتم ديننا الإسلامي الحنيف اهتماماً كبيراً بصلة الأرحام وحَثَّ عليها ، وأكّد على وجوبها وضرورة المحافظة عليها والعناية بأمرها ، فقد أخبر رسولنا  صلى الله عليه وسلم  أَوَّلَ ما أخبرَ أن الله سبحانه وتعالى أرسله بصلة الأرحام ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: («...أَرْسَلَنِي اللَّهُ»، فَقُلْتُ: «وَ«بِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ») (2)، ومن هنا فقد جاءت أحاديث نبوية كثيرة تحدثنا عن فضائل صلة الأرحام، وخطورة قطيعة الرحم ، ومنها:
صلة الأرحام من مراتب الإيمان: لقد جعل الإسلام صلة الأرحام مرتبة متقدمة من مراتب الإيمان، وجاءت الوصية بها بعد تقوى الله كما في قوله تعالى:  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3 ).
وربط رسولنا  صلى الله عليه وسلم  بين صلة الأرحام والإيمان، كما جاء في الحديث الشريف: -  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : (مَن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَليَصلْ رَحمه، وَمَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَو لِيَصْمُتْ) ( 4) .
صلة الأرحام بَرَكَةٌ في الأرزاق والأعمار: لقد  حثت السنة النبوية الشريفة  على صلة الأرحام؛  لما يترتب على ذلك من سعة في الرزق وطول في العمر وسعادة في الدنيا ونعيم في الآخرة، لقوله  صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه) ( 5).
صلة الأرحام سَبَبٌ في صلة الله سبحانه وتعالى للعبد: لقد أخبر رسولنا  صلى الله عليه وسلم  أن صلة الأرحام سبب في صلة الله سبحانه وتعالى للعبد، كما جاء في قوله  صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الرََّحِمَ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ ) (6)، وقوله  صلى الله عليه وسلم  أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَة، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى ، قَالَ : فَذَاكِ لَكِ). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (7).
ومما يُؤسفُ له أن بعض الأسرِ في مجتمعاتنا قد تفرَّقت وانتشرت البغضاء فيما بينها يَوْمَ أن قطعوا أرحامهم، فهناك مِن الأشخاص مَنْ يحقد على رَحِمِه ويتآمر عليهم بشتى الوسائل، مما نتج عنه قسوة في القلوب، وقلّة في الأرزاق، وذهاب للبركة.
أرى أن تجعلها في الأقربين
 أخرج الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الزكاة ، باب الزكاة على الأقارب ، قالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ  -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى  تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَة:َ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ»)(8 ).
لقد بين رسولنا  صلى الله عليه وسلم  ما لصلة الأرحام من مكانة رفيعة وآثار طيبة في المجتمع الإسلامي، سواء كانت بالكلمة الطيبة، أو بالمساعدة والمعونة، أو بالرعاية والتقدير، كما قال  صلى الله عليه وسلم : (إنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)(9 ).
أَصِلُهُمْ... وَيَقْطَعُونِي
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-  أَنَّ رَجُلا قَالَ:  يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً، أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (10 ). 
لقد بيّن رسولنا  صلى الله عليه وسلم  أن صلة الرحم ليست قاصرة على الأقرباء الذين يصلونك ويزورونك، فهذه تُعَدُّ مكافأةً لهم على زياراتهم،  ولكنّ الصلة الحقيقية الكاملة ينبغي أن تشمل جميع الأقرباء حتى القاطع منهم كما جاء في الحديث السابق، حيث يؤكد – عليه الصلاة والسلام -  أن صلة الرحم تعني أن تصل الرحم التي قطعتك، وقصّرت معك، وأساءت إليك، كما قال  صلى الله عليه وسلم : ( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)(11 ). 
ورحم الله القائل:
إِنّ الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي
        وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفٌ جِدّا
إِنْ أكُلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم
وَإِن هـَدَمُوا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا
وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم
وَلَيسَ كَريمُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدا
لذلك يجب على المسلمين أن يصلوا أرحامهم وأن يتناسوا زلاتهم، وما قصة أبي بكر الصديق  – رضي الله عنه – مع قريبه مسطح بن أثاثة عنا ببعيد، فقد كان أبو بكر – رضي الله عنه- يُنفق على مسطح بن أثاثة لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمرُ الإفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا يُنفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ..} الآية (12)، فقال أبو بكر: والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى الإنفاق على مسطح كما كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
هذه هي تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحثنا على صلة الأرحام، وتبين لنا عظيم فضلها وأجرها، فعلينا أن نتمسك بها ونحرص عليها، فهي سبيل السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

* خطيب المسجد الأقصى المبارك والنائب الأول المنتخب لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس