بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 كانون الأول 2023 12:00ص الإسلام والعلمانية: نقاط الإختلاف والتلاقي

حجم الخط
تختلف الخلفية الفكرية عند استحضار بعض المفردات اللغوية المتداولة في مجموعة ثقافية معيّنة عن مدلولاتها المقابلة لها في مجموعة ثقافية أخرى. فما تثيره مفردة لغوية في مجتمع معيّن من مجموعة أفكار يبني عليها أفراد هذا المجتمع إدراكهم الفكري ووعيهم قد لا تلتقي مع نفس المعاني المقابلة لها في المجتمعات الأخرى. من هذا القبيل ما دوّنه الإنجيل على لسان يوحنا عندما ذكر في معرض حديثه عن الكرازة بالسيد المسيح بأن اليهود تطلب المعجزات واليونانيين يسألون الحكمة، وكأن اليهود لا يستطيعون إدراك الدين إلّا من خلال تحقيقه المعجزات الخارقة واليونانيين إلّا حين إتيانه بحكمة الفلاسفة. بل وقد تختلف هذه الخلفيات الفكرية في نفس المجتمعات المنتمية الى نفس الثقافة والرابط اللغوي من منطقة جغرافية الى منطقة جغرافية أخرى، لذلك اشترط الفقهاء المسلمون في معرض كلامهم عن الشروط المتوجبة لتولّي منصب الإفتاء أن ينتمي المفتي الى منطقته الجغرافية كشرط لتوليه الإفتاء وذلك حتى لا تختلط عليه المفاهيم المستخدمة لدى جمهور الناس الذين يلتجأون إليه طلبا للفتوى إذا كانوا من منطقة مغايرة لمنطقته التي نشأ فيها فيدلي بفتوى مغايرة للواقعة المستفتى بها.

العلمانية والدين

من بين هذه المفردات الكثيرة التي تختلف مفاهيمها بين المجموعات الثقافية المتنوعة كلمتي العلمانية والدين. وقبل أن أتناول مفردة الدين كمقدمة لموضوعنا عن العلمانية أريد أن أشير سريعا الى مفردتين أخرتين من باب تقريب هذه الفكرة الى الأذهان، فكلمة أب وإبن لهما مع بساطتهما في التعبير وإجماع البشرية على فهم مدلولهما إلّا أنهما تثيران في بعض المجموعات الثقافية معاني إضافية لا توجد في مجموعات ثقافية أخرى، فالغرب منذ مهد حضارته يعطي لهاتين المفردتين المعنى البيولوجي المعروف لدينا، في حين أن المجتمعات الشرقية تعطيهما مدلولا معنويا إضافيا للدلالة من خارج الإطار البيوليوجي على الإحترام والتقدير ما زال الى الآن مستخدما لدى شعوب مجتمعاتنا العربية والأفريقية.
أعود الى مفردة الدين التي تثير معاني ومفاهيم مختلفة حسب المجموعة الثقافية التي ننتمي إليها، فالدين في مفهومه الغربي والمشتق من اللفظ اللاتيني religio يثير بالاشتقاق اللغوي الذي تكلم به Cicéron معنى الاحساس بالرهبة والدقــة عند تأدية الطقوس الدينية، وبالمعنى الآخر الذي فهمه Lactance- Saint Augustin معنى الربط والعلاقة، يقابله التعبير الفرنسي lier, relier وبذلك يكون الدين مصطلحا يطلق على العلاقة أو الرابط الذي يربط الإنسان بالآلهة. انطلاقاً من هذا المعنى تنوّعت التعريفات المستخدمة في اللغات الأوروبية لكلمة الدين ولكنها أجمعت على كونه دالاً على جهة التخصيص والحصر على مجموعة الأمور الاعتقادية الغيبية والطقوس الدينية المرافقة لها. ولذلك بادرت هذه المجتمعات عند ظهور المسيحية في أوروبا وإعلانها دينا للامبراطورية الرومانية، إلى التفريق بين ما هو سلطة دينية وسلطة زمنية، بين ما يشكّل قانونا للدولة وما يعتبر شأنا كنسياً، بين الأعياد المدنية والأعياد الدينية.
وأما في المجتمعات الشرقية وحتى الهندو-أوروبية فلم يكن لديهم أي تعابير مستقلة تدلّ على مثل ما اصطلح عليه الأوروبيون للدلالة على حصرية الدين بالأمور الإعتقادية الغيبية والطقوس الدينية، فالحياة الاجتماعية والسياسية بكل جوانبها كانت لدى هذه الشعوب مليئة بالمفاهيم الدينية، بل وأن الدين الذي ترك بصماته على مختلف هذه المجالات كان يشكّل الركيزة الأولى لهذه المجتمعات: فالفنون والقانون والمؤسسات بمختلف أشكالها وأنظمة الحكم والعلوم كانت مستوحاة بشكل أو بآخر من الدين. وإذا كان الأمر كذلك فإن تخصيص مصطلح يدلّ على مجموعة الأمور الإعتقادية والتعبّدية لم يكن مألوفاً ولا معهوداً، ولا نجد في كل هذه اللغات للدلالة على الدين إلّا مصطلحات عامة لا تشكّل العبادات والاعتقاديات إلّا جزءاً منها.
من بين هذه المجتمعات الشرقية لم تعرف اللغة العربية حصرية استخدام كلمة الدين على الأمور الإعتقادية الغيبية، فالدين في مفهومه الإسلامي مثلاً وهو الذي يعنينا هنا لا يرادفه لفظ الروحانيات المقابل للفظ الماديات، ولا يشتمل على سلطة روحية في مواجهة سلطة زمنية (وحتى كلمة زمنية وروحية هما غريبتان عن المفاهيم الإسلامية). والدين باشتقاقه العربي المطابق لما في اللغات السامية من ألفاظ مرادفة يفيد الوجوب والالزام، ومن هذا المعنى كان اشتقاق كلمة الدين الذي يقترضه الإنسان ويلتزم بوفائه، وكذلك يستعمل هذا اللفظ بمعنى السيرة والمنهج الذي يسلكه الإنسان، فيكون الدين بذلك كله مرادفاً لمعنى القانون والشرع الذي يتبعه الناس، وقد جاء في شرح البيجوري على جوهرة التوحيد من أن «الدين هو وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات أي ما شرّعه الله تعالى على لسان نبيه من أحكام».

تميّز الثقافة الإسلامية

انطلاقاً من هذه المفاهيم فإن ما توارثته الثقافة الغربية من مدلولات دينية أدّى إلى قبول شعوبها للعلمانية عند أول طرقة باب طرقتها الثورة الفرنسية من أجل وضع حد لتدخّل الكنيسة بشؤون الدولة. في حين أن المجتمعات الإسلامية واجهت وما زالت تواجه بتحدٍّ كبير ورفض تام تغلغل العلمانية إلى ثقافتها وفي أنظمتها السياسية والسبب في ذلك يعود إلى عوامل عديدة إضافة إلى المدلول اللغوي والفكري المتوارث في المجتمعات الإسلامية لكلمة الدين والذي سبق ذكره. أذكر من هذه العوامل عاملين إثنين:
أولهما: أن الشريعة الإسلامية بمقتضى قواعدها الكليّة العامة أسّست فقهاً شاملا ومستوعبا لكافة التطورات ولكل ما تقتضيه سنّة الحياة من نظم وأحكام عملية، وهي ليست جامدة ومتوقفة بل تطورت وفق مصالح الناس واحتياجاتهم منذ القرون الأولى لنشأة أول دولة إسلامية. وأن المسلم في عقيدته ومنهج حياته يستلهم هذا الإيمان الغيبي بالإقدام على العلم والعمل والعبادة دون أن يتكبّل بقيود الشكليات والطقوس. وهو يدرك بنفس الوقت بأنه بقدر ما يتعلم ويعمل ويكون مفيداً لغيره من الناس يتفوّق على المؤمن المنقطع للعبادة، فلا رهبانية في الإسلام، ولا تغليب للجانب الأخروي على الجانب الدنيوي، فكلاهما مطلوب بنص القرآن حيث يقول الله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (سورة القصص 70 ). وقد جاءت كثير من الأحاديث المروية عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم  لتعزز هذا المبدأ فربطت بعض الأحاديث بين المعاني التعبّدية وتلك المتعلقة بالأنفعية الإنسانية، ففي حديث نبوي يقول فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم  «الخلق عيال الله وأقربكم للّه أنفعكم لعياله»، و«إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه»، فكان الإسلام عند غالبية المسلمين منهجية دينية ودنيوية يعيشونها في كافة جوانب حياتهم وتفاصيلها، فلذلك شعروا بهذا الإنتماء السياسي والإجتماعي والتشريعي والحياتي منذ العصور الأولى للإسلام.
ثانيهما: أنه لم يوجد في الإسلام سلطة بشرية دينية مجسّدة في قالب مؤسساتي وفق هيكلية هرمية مترابطة. كما لم يوجد رجال دين ولا كهنوت، بل علماء متخصصون في علوم الدين، مثلهم مثل العلماء المتخصصين في العلوم الدنيوية. فلا تراتـُبية بين علماء الدين تبتدئ من عالم دين صغير في أسفل الهرم الديني وتنتهي إلى قمة السلطة الدينية العليا. ولا يخوِّل الإسلامُ لعالِــم الدين في أي مستوى من مستويات التـفقّه في الدين سلطة توسطية بين الله وبين الإنسان ولا سلطة الإنصات إلى اعتراف المذنبين والآثمين وحق غـفـران ذنوبهم أو تخفيفها.
لذلك فإن الدعوة العلمانية لم تلقَ في بدايتها منطقة فراغ تشريعي كالذي حدث في اوروبا إبان الثورة الفرنسية، بل واجهت العلمانية على صعيدي التشريع والتنظيم الإجتماعي دولاً وشعوبا تنظم حياتها وعلاقاتها على هدي الشريعة الإسلامية، كما لم تواجه على الصعيد الفلسفي حالة ضياع وحيرة تمكّنها من فرض منهجها المادي على الناس بل واجهت بناء فكريا مستمدّا من الإسلام ومن دعوته إلى التفكّر وإعمال المعرفة التجريبية في ميدانه الخاص به والتسليم فيما يخص الإنسان ومبادئه ومنهاج حياته الدينية والعملية الدنيوية إلى مصادر التشريع الإسلامي من وحي واجتهاد وقياس ومصالح عامة وأعراف مستحسنة.
وإذا كانت هذه هي الحال في بداية ظهور العلمانية الأوروبية، إلّا أنها استطاعت بعد ذلك وبمؤازرة الإستعمار الغربي لدول منطقة الشرق الأوسط بعد انهيار الخلافة العثمانية إلى إحكام سيطرتها على العالم الإسلامي والعربي في مجالات التعليم والثقافة والفنون بل وتسللت بعد ذلك بواسطة مناصري أفكارها في الداخل الى مؤسسات التشريع والقضاء وخاصة في التشريعات المدنية والتجارية والجنائية، وهي ما زالت تتحفز للقضاء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية لإحلال قوانين علمانية مكانها بعد أن تمكّنت من إدخالها في بعض الدول العربية والإسلامية، لذلك كان هذا الصراع وما زال متأججاً من أجل الوثوب إلى آخر معقل من معاقل الشريعة في مجال تشريعاتها الخاصة بالأحوال الشخصية.
فكان لا بد لهذا الصراع بين العلمانية والإسلام أن يستشري وأن تتباعد الفجوة بينهما بسبب ما يؤججه متشددو كل فريق. لكننا بعيداً عن هذا الصراع كان لا بد لنا من أن نتعرّف على نقاط التلاقي والإختلاف بين هاتين المنهجيتين، تمهيداً للتوفيق بينهما ان أمكن ذلك دون أن يغيّر هذا التقارب من مبادئهما الثابتة، أو في حال عدم إمكانية التوفيق، التسليم بمبدأ الأغلب للأصلح والأنفع بينهما، فليس كما قال أحدهم بأن ما يهمّ الناس هو كيف يأكلون من العلمانية خبزاً وكيف يشرب الأطفال من الدين حليباً ولكن المهم معرفة ما يأكل الكبار من خبز وما يشرب الصغار من حليب، فكم من أصناف الغذاء لا تتوافق مع البنية الجسدية لبعض الأشخاص.

(يتبع الجزء الثاني)