بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الثاني 2023 12:00ص التعددية الدينية في المفهوم الإسلامي

حجم الخط
كتب الأستاذ الكبير الدكتور أدمون رباط في تقديمه لكتاب الوزير جورج قرم عن المجتمعات المتعددة الأديان: «بأن موقف الإسلام من الأديان الأخرى لا يمكن وضعه تحت خانة التسامح غير المحدد والذي يمكن تعديله والتراجع عنه في كل لحظة بل إن هذا الموقف مترسخ في الفقه الإسلامي الثابت والذي لا يمكن تغييره».
لا شك بأنه إذا عدنا إلى الوراء، إلى الماضي الغارق في القدم، لوجدنا - كما يؤكد Fustel de Coulanges في كتابه عن المجتمعات البدائية المطبوع سنة 1864 – بأن المجتمعات الوثنية التي سبقت الأديان التوحيدية بعد إن كانت متطرفة وإقصائية وعشائرية تطورت لأسباب فرضها التوسع الأقليمي والحروب المتنافسة بين شعوبها، لتصبح مجتمعات توافقية متساهلة إزاء المعتقدات الدينية الأخرى. عند نهاية الحروب كانت المجتمعات الغالبة والمنتصرة تبقي على أديان الشعوب المغلوبة وتضيفها الى آلهتها وتضعها داخل المعبد الرئيسي للمدينة Panthéon حيث يتصدر اله الشعب الغالب آلهة الشعوب المغلوبة، وتبقى شعائرهم وطقوسهم تمارس دون أي تحذير منها أو إقصاء للمؤمنين بها.
هذا الموقف المتراخي في قبول دين الآخر والذي أدى إلى إنصهار الأديان بعضها ببعض به لم يدم طويلاً، فمع ظهور الأديان التوحيدية وضع حد فاصل وصلب لا يمكن خرقه بين الأديان المختلفة داخل المدينة الواحدة. فجاءت اليهودية وفرقت بين شعب الله المختار وبين الشعوب الأخرى بين الغوييم وبين المينيم، فحرمت أي اتصال وأي انخراط وأي تزاوج وأي مشاركة في المطعم والمشرب بين اتباع الدين اليهودي وبين هذه الشعوب. ثم جاءت المسيحية واتبعت الكنيسة موقفاً صلباً ومتشدداً مع وجود الأقليات الدينية في مجتمعها التي اعتبرت وجودها تحدياً للمجتمع المسيحي الذي يدعو كما الإتحاد في جسد المسيح إلى وحدة المجتمع المسيحي. حتى أن كلمة الدين كما اشار بذلك قاموس Furetière سنة 1690 لا تعني الا الدين الكاثوليكي الروماني والرسولي، وأما باقي الأديان فلا يطلق عليها كلمة الدين الا مجازاً وتجاوزاً. هذا الموقف الرافض للآخر لم يتغير ويتبدل إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني في عام 1963 في وثيقة  Nostra Aetateحيث تكلمت الكنيسة ولأول مرة عن اديان أخرى تسعى الى عبادة الله الواحد والإيمان بالانبياء المرسلين وبالبعث والحساب ويوم القيامة كما هو الحال بالنسبة للإسلام. 
ثم جاء الدين الإسلامي واتبع منحى وسطاً بين المذهب التوافقي الإنصهاري للمجتمعات القديمة التي كانت على استعداد بأن تضحي بالمعتقد الديني الواحد والحصري للأغلبية من أجل بناء الدولة وتماسكها، وبين حصرية الأديان السماوية التوحيدية - خلال عصور الإنغلاق على الأقل - التي كانت مستعدة بأن تضحي ببنيان الدولة وتماسكها من أجل المحافظة على وحدة المعتقد الديني. من خلال هذا التوجه استطاع الإسلام كما يقول عالم الإجتماع الشهير Levi-Strauss في كتابه   triste tropique الخروج من التناقض الذي نشأ بين المنحى العالمي للوحي الإلهي التوحيدي والحصري وبين قبول التنوع الديني داخل المجتمع الواحد. فرغم تفريق الإسلام ما بين المسلمين واهل الكتاب والمشركين، إلا أنه إتبع منهجية انفتاحية ثنائية: أولها اعتبار أهل الكتاب والوثنيين العرب الذين لم يدخلوا الإسلام ولم يحاربوه أمة واحدة مع المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، بشرط مساهمتهم في الإنفاق على مصاريف الدولة والزود عنها بالمال والروح. هذا التوجه انبثق عن صحيفة المدينة التي جاء فيها:
- بأنّ يهود المدينة على اختلاف انتماءاتهم «أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه».
- وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم..
- وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وثانيها: هو ترك أهل الكتاب وما يدينون به في حال امتناعهم عن الدفاع عن الدولة مقابل دفع ضريبة موازية لما يدفعه المسلمون من مال الزكاة وتعهد المسلمين بالدفاع عنهم في أحوال الحروب الخارجية والغزوات. وهذا ما عرف بعهد النبي مع قبيلة نجران المسيحية، وقد جاء فيها:
«هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجميها معروفها ومجهولها كتاباً جعله لهم عهداً فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئاً وللّعنة مستوجباً سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين- لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شئ من بناء كنايسهم فى بناء مسجد ولا في منازل المسلمين فمن فعل شيء من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر في المشرق والمغرب والشمال والجنوب وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه - ولا يجادلوا إلاّ بالتي هي أحسن ويحفظ (ويخفض) لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا - ويعاونوا على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد».
سواء كان الخيار الذي اتبعه الإسلام ما بين صحيفة أو دستور المدينة أو بين معاهدة نجران فقد كانت القاعدة دائماً وخلال كل العصور: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» و «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
إن هذا المنحى الإسلامي التسامحي وغير المتعصب عبر العصور متجذر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وفي الممارسة العملية خلال فترات الحكم الإسلامي لهذه المنطقة. وهو لا ينفي وجود أزمات من الإضطهاد ضد المسيحيين بشكل خاص، تعود بعض أسبابها الى جهل بعض حكام المسلمين من موقف الإسلام الثابت من قبول الآخر المختلف دينياً, كما حصل في عهد السلطان ياوز سليم حين أراد تحويل الكنائس الى مساجد وإجبار المسيحيين الى اعتناق الإسلام، فتصدى له شيخ الإسلام زنبلي علي جمالي واتفق مع صديقه بطريرك إسطنبول الى حث السلطان لإلغائه، فكان لهما ما أراداه. ومع ذلك لم تكن معظم هذه الأزمات -كما يذكر ذلك كثير من المستشرقين المسيحيين مثل Gibb et Bowen -اضطهاداً دينياً وإن استخدم الدين كغطاء له وإنما كان في الغالب بسبب المتغيرات الإقليمية الناتجة عن ارتباط بعض المسيحيين وعلاقاتهم بالدول التي كانت في حروب مع الدول الإسلامية, والدليل على ذلك كما يجمع المؤرخون اليهود بأن التسامح الإسلامي اتجاه اليهود لم يكن له مثيل في أي دين ومجتمعات أخرى غير إسلامية وذلك بسبب عدم وجود علاقات كانت تربطهم في وقتها بدول أجنبية كما هو الحال مع بعض المسيحيين، رغم أن الآيات القرآنية التي تحذر من علاقة المسلمين باليهود كثيرة عكس الآيات القرآنية التي تحبذ إلى إقامة علاقات إيجابية وبناءة مع المسيحيين الذين تصفهم بأنهم أقرب مودة إلى المسلمين من غيرهم وأن فيهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.  
هذا الموقف الإسلامي الواعي من الحرية الدينية لم يكن وليد آراء وأفكار يرددها المسلمون عبر الأجيال وإنما كان منهج حياة ونظام دولة وشريعة يلتجأ اليها كل من اغتصب حقه ونيل من كرامته وسخر من معتقده, وحقوق وواجبات يلتزم بها المسلم إزاء الآخر المختلف دينياً، ومبادئ أخلاقية سامية يتعامل بها المسلمون الصادقون مع غيرهم من اتباع الديانات السماوية السابقة والذين كان أقربهم لقلوب المسلمين اتباع المسيح عليه السلام.
أساس هذه العلاقة هو البر والمودة وحسن الصلة والجوار وعدم الإكراه في الدين واحترام المعتقد وعدم الإستهزاء به والجدال بالتي هي أحسن، والمصاهرة والقرابة والمشاركة في المأكل والمشرب, والدفاع والزود عنهم إذا حصل أي مكروه أو اعتداء عليهم لدرجة أن الفقهاء ذكروا بأن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله ورسوله».
وفي هذا الإطار ننوه بدور الأئمة والعلماء والقضاة المسلمين الذين كانوا في مختلف العصور يهبون لنصرة إخوانهم المسيحيين عندما يقع عليهم ظلم أو اعتداء من حاكم مسلم. وفي هذا السياق نذكر ما حدث في لبنان أيام ثورة أهل المنيطرة المسيحيين ضد الوالي العباسي صالح بن علي أيام خلافة المنصور الذي أرهقهم بالضرائب الباهظة فأمر جنوده بوضع حد لهذه الثورة عن طريق استخدام العنف والقسوة مع الأهالي بل وطردهم من قراهم ومصادرة أموالهم, فما كان من الإمام الأوزاعي إلا أن نهره برسالة مطولة على ما اقترفه جنوده وطالبه بعودة الأهالي إلى قراهم وتسليمهم أموالهم مذكراً أياه بحديث رسول الله: «من آذى ذمياً فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة». والجدير بالذكر بأن الدولة العباسية في هذه الفترة شهدت تنكيلا وعنفا لم يسبق له مثيل في التاريخ الإسلامي ضد معارضيهم. فكانت شجاعة الإمام الأوزاعي لا مثيل لها في الوقوف أمام ظلم الولاة والحكام.
هذا الموقف الإسلامي من الحرية الدينية ثابت لا يتغير لا في وقت الرخاء ولا في وقت الشدة، لا في زمن الثبات ولا في زمن المتغيرات، ففي زمن التأسيس جاء القرآن الكريم ليقول بأن الإختلاف بين الناس هو من طبيعة البشر وهي القاعدة التي ينبغي أن يبنى عليها أساس قبول الآخر.وكأن من حكمة الله الظاهرة في خلق الإنسان وانتشاره على هذه الأرض هو امتحانه لنا في قدرتنا على قبول هذا الإختلاف:   (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وهو امتحان لنا حين نتخاصم ونتحاكم، بعد أن ارشدنا وطلب منا عدم تنصيب انفسنا حكاماً من دون الله (وما أكثرهم في كل العصور): ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهو امتحان لنا حين نتجادل ونتحاور بعد أن علمنا بأن يكون شعارنا الإحترام المتبادل للوصول إلى أسمى ما تكون فيه العلاقة مع بعضنا البعض: (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وأيضاً (ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن)، وهو امتحان لنا إذا تجادلنا وتحاورنا بعد أن نبهنا إلى ضرورة أن نعيش أخوة متحابين متجاورين ومتضامنين رغم اختلافنا العقائدي (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وحين يتحقق كل ذلك فينا أن نعترف بأن الهدف الأسمى والغاية التي من أجلها خلقنا جميعاً هو الإيمان بربوبية الله الواحد لنا جميعاً: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 
هذا في زمن التأسيس وأما في زمن المتغيرات فأن أصل العلاقة بين المسلمين مع غيرهم تبقى ثابتة كما هي من حيث اعتبار الحرية الدينية مبدأ ثابت لا يتزعزع ولا يتغير إضافة الى المودة وحسن الصلة وعدم الإكراه في الدين واحترام المعتقد وعدم الإستهزاء به. والسؤال الذي يطرح عن موقف الإسلام حين تقوم دواعي العداوة الحربية حين يعلنها غير المسلمين على الإسلام سواء بسبب الدين والمعتقد أو بإخراجهم وطردهم من ممتلكاتهم ومساكنهم.      
يقول الله تعالى في القرآن في سورة الممتحنة: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالمسلم مطلوب منه كما جاء في كتاب د. محمد سليم العوا « للدين والوطن» ألا يتخذ الذين يقاتلون المسلمين في دينهم ويخرجوهم من ديارهم ويتظاهروا على إخراجهم  مناصرين لهم وأعوان, والنهي عن اتخاذهم أولياء ليس بوصفهم شركاء وطن أو جيران سكن أو زملاء عمل أو أصدقاء في الدراسة أو في العمل أو في أي جانب من جوانب الحياة الإجتماعية, ولكنه نهي عن مناصرتهم بوصفهم جماعة معادية لجماعة المسلمين تحاربها بنفسها أو تمالئ عليها أعداءها المحاربين لها. وبوصفهم جماعة تتخذ من تميزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوأة للمسلمين والمحادة لله ورسوله. 
والمثال الذي تتضح به صورة هذا النهي في هذه الآية القرآنية هو العلاقة التي يجب أن تكون بين مسلم اليوم – سواء كان موطنه في دولة عربية أو إسلامية أو غربية أو حتى في فلسطين المحتلة – وبين الصهاينة من اليهود الذين يحتلون أرضنا في فلسطين ويقتلون أهلنا ويشردونهم بإخراجهم من ديارهم بغير حق. فهؤلاء تجب معاداتهم والوقوف موقف الإنكار والشجب لكل ما يفعلون. وهذا يمتد أيضاً على حركة المسيحيين المتصهينين في الولايات المتحدة الأمريكية الذين يعادون الإسلام ويستهزؤون بمبادئه ويزورون تعاليمه ويساعدون الصهاينة الإسرائيليين في شتى المجالات سواء في تقوية وشرعنة الإحتلال أو في تزويدهم بالمال والعدة أو في مؤازرتهم على أعلى مستوى على صعيد الإعلام الدولي المتحيز لإسرائيل. وأما اليهود العرب وغيرهم الذين يعيشون في بلادنا أو في البلاد الأجنبية وهم مواطنون في هذه الدول فنحن لا نعاديهم ولا نحاربهم ولا نصد الآخرين عن  التعامل معهم. 
وأما عن موالاة غير المسلمين الذي نهى القرآن عنه في مواضع متعددة فقد جاء مرتبطاً بحوادث تاريخية مثل المحادة لله والرسول أو مرتبطاً بإخراج الرسول والذين آمنوا به من مكة. أو في حالة الحرب والعدوان من جانب غير المسلمين فيكون النهي مقترناً في هذه الحالة بكون هذه الموالاة من جانب بعض المسلمين الذين يتولون غير المسلمين من دون موالاتهم للجانب الآخر من المسلمين. والموالاة المنهي عنها أيضاً هي للذين يتخذون دين الإسلام مادة للعبث والإستهزاء وحتى أن القرآن ينهى المسلمين عن مجرد مجالسة الذين يخوضون بغير علم في القرآن الكريم استهزاءً به ولو كانوا من المسلمين المتظاهرين بإيمانهم بهذا الدين، فمن باب اولى أن يكون هذا النهي مع الذين يخالفونهم دينهم إذا جرى الإستهزاء والفتنة على ألسنتهم.
وهذه الأمور التي ذكرها القرآن الكريم في مجال النهي عن موالاة غير المسلمين ليس له علاقة بالصلة اليومية المعتادة بين شركاء الوطن سواء من أهل الإسلام أو من الأديان الأخرى. فإن الراشدين العاقلين لا يعادون من يتقاسم معهم أوطانهم في سبيل مؤازرة قوة أجنبية معادية أو يسلكون مسلك الجاهلين السفهاء الذين يهزؤون بديانة شركائهم في الوطن ويلعبون برموزه وشعائره. ومن يتصف بهكذا مواصفات فإن المسلم الذي يتخذه ولياً من دون المؤمنين سواء بمعنى النصرة أو بمعنى الصداقة يكون آثماً باختياره جانب عدوه أو جانب المستهزئ بدينه على حساب عقيدته. وهذا مبدأ لا يعارضه أي إنسان سليم سواء كان مسلما أو غير مسلم. حتى أن الإسلام يمنع أتباعه من سب آلهة المشركين كي لا يسب المشركون دين المسلمين: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)  إذا كان هذا سلوك المسلم مع دين المشركين فكيف إذا كان الأمر مع أديان أهل الكتاب الذين يؤمن بهم المسلم ويبجل أنبياءهم ويذكرهم في صلاته ويتسمى بأسمائهم ويقتضي بأقوالهم وافعالهم.
في زمن الثورات العربية والتغيرات التي رافقتها أكدت المرجعيات الإسلامية وفي طليعتها الأزهر الشريف على الثوابت الإسلامية بمواضيع تخص الحريات ومنها الحرية الدينية. فأصدرت مشيخة الأزهر بتاريخ 8 كانون الثاني 2012 وثيقة بهذا الموضوع جاء فيها:
حـــريّة العقيدة: تُعتَبر حريّةُ العقيدة,وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساوة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية فى البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ويقول: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ), ويترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام. ويترتّب على حـــق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساسٍ متينٍ من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات. كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك – بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف: (هلا شققتَ عن قلبه) والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله:«إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر» وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه: «إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل» تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة.