بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 حزيران 2020 12:00ص الثبات على الطاعات بعد رمضان

حجم الخط
الشيخ د. يوسف سلامة جمعة *

وَدَّع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها شهر رمضان المبارك، شهر الخير والبركة بعد أن وفّقهم الله سبحانه وتعالى لطاعته، حيث صاموا نهاره وقاموا ليله، طاعة للّه سبحانه وتعالى، وكلهم ثقة في الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل صيامهم وقيامهم، وأن يكتبهم من عتقاء شهر رمضان، وأن يكتبهم في قوائم الأبرار، إنّه نِعم المولى ونِعم النصير.

ويأتي شهر شوال كما هو معروف عقب شهر رمضان، فهو شهر يقف فيه المسلم وقفات مع نفسه يحاسبها ويراجع فيها سجله، فهل أدّى واجبه وأرضى ربه وأراح ضميره، فأصبح من حقه أن يفرح كما جاء في الحديث الشريف: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)، ففرحته عند فطره تتمثل بأنه أدّى واجبه وأرضى ربه وأراح ضميره، وفرحته عند لقاء ربه عندما يجد أجره كثيراً بغير حساب، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.

لقد استقبل المسلمون قبل أيام عيد الفطر المبارك بعد أدائهم لفريضة الصوم، وفي يوم العيد يتجلّى الله على عباده، فيغفر لهم ما تقدّم من ذنوبهم، ويرحمهم ويوفيهم أجرهم بغير حساب، وفي العيد دعوة إلى تأكيد أواصر المودّة بين الجيران و الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعالي على أسباب الحقد والشحناء.

وفي يوم العيد يعطف الأغنياء على الأيتام والفقراء والمحتاجين، فتدخل البسمة والفرحة كل البيوت، وتظهر وحدة المسلمين وتكافلهم، فهم كالجسد الواحد، فليس بينهم محزون ولا محروم.

هنيئاً لمن صام رمضان إيماناً واحتساباً، وهنيئاً لمن صام رمضان حقَّ الصيام وقام ليله حقَّ القيام، وهنيئاً لمن واظب على الطاعات والقربات واجتنب المعاصي والموبقات، وهنيئاً لمن رسم البسمة على شفاه الأيتام والفقراء والمحتاجين، وهنيئاً لمن بَرَّ والديه ووصل رحمه وأحسن إلى جاره، وهنيئاً لمن عقدَ العزم على الاستمرار في طاعة الله عزّ وجلّ.

ونقول لكل من فرّط وقَصَّر أو ضاع منه شهر رمضان: لا تيأسْ من روح الله سبحانه وتعالى ولا تقنط من رحمته، فربك الغفور ذو الرحمة لكل من تاب إليه وأناب، فارفع يديك إليه وتضرع بين يديه وأكثر من الاستغفار والدعاء فإن الله غفور لمن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى.

وعلينا أن نتذكر دائماً قول الله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، وقوله أيضا: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}، فأين هذا من أولئك الذين ينسون الله سائر العام، ولا يذكرونه إلا في شهر رمضان، ويعصونه ويكفرون نعمه، ويجحدون فضله أحد عشر شهراً، ثم يَمُنُّونَ على ربهم أن عبدوه شهراً واحداً، هذا جهل وتفريط، جهل بحق الله على عباده، وتفريط بواجبهم نحوه سبحانه وتعالى ومن هنا فإن الواجب على المسلم بعد رمضان أن يقف وقفات يحاسب فيها نفسه، ويراجع فيها سِجلَّه، وينظر فيما قدّم، هل أدّى الواجب أو قصَّر؟ أمَّا مَنْ أدّى الواجب فَمِنْ حقَّه أن يفرح، وهذا معنى: «ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».

فضل صيام الست من شوال

اعلم أخي المسلم بأن العبادة والطاعة لا تنقطع وتنتهي بانتهاء شهر رمضان المبارك، فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع عن عبادة الصيام، فالصيام لا يزال مشروعاً، فقد روى أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)، وجاء تفسير ذلك في حديث آخر رُوِيَ عن ثوبان، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: (صِيَامُ شَهْرٍ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّة أَيَّامٍ بَعْدَهُنَّ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ)، يعني – شهر رمضان وستة أيام بعده -، فصيام رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بشهرين، أي: صام السنة كلها، وإذا استمر على ذلك في كلّ سنة فقد صام الدهر كله، وقد تعددت آراء العلماء في ذلك، فبعضهم يقول: يتبعها في اليوم الثاني للعيد، والبعض قال: المهم أن تكون في شوال، وليس من الضروري أن يصومها ستاً متتابعة، ويمكنه صيامها متفرقة.

ومن فضل الله علينا أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم - قد شرع صيام ثلاثة أيام من كل شهر لحديث أبي ذر – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَصُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ»، وكذلك صيام يوم عرفة، وصيام يومي الاثنين والخميس، وصيام شهر الله المحرم.

كن ربانياً ولا تكن رمضانياً

من الأمور المؤسفة أن بعض الناس يُقبلون على الله في رمضان، فإذا ما انتهى رمضان انتهى ما بينهم وبين الله عزَّ وجلَّ، فللأسف فهم بعد رمضان لا يعمرون المساجد، ولا يفتحون المصاحف، ولا تلهج ألسنتهم بالذكر والتسبيح، كأنما يُعبد الله في رمضان ولا يُعبد في شوال وسائر الشهور. من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد رحل، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقد ورد أن بعض السلف كانوا يقولون: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كُن ربانياً ولا تكن رمضانياً.

إن الواجب علينا أن نواظب على طاعة الله ورسوله في كل وقت، فالله عزّ وجلّ يحب من العمل أدومه وإن قلَّ، فإياك أخي القارئ أن تنقطع عن العبادة بعد رمضان، فهذا ما لا ينبغي، فليس من اللائق أن يكون لك في رمضان حظٌّ من التلاوة، ثم بعد ذلك تهجر المصحف إلى رمضان القادم، وأن يكون لك حظٌّ من المسجد، ثم بعد ذلك تنقطع عنه إلى رمضان القادم، فهذا لا يليق.


* خطيب المسجد الأقصى المبارك