بيروت - لبنان

16 تشرين الثاني 2023 12:00ص السيكولوجية الدينية في الصراع العربي - الإسرائيلي

حجم الخط
يشير الباحثون الأكاديميون الغربيون في معرض حديثهم عن العرب والعبرانيين عن قرابة بيولوجية عرقية قديمة جمعت بينهم ويصفونهم بأنهم أبناء عم يجمعهم الإنتماء الى جدّ واحد وهو إبراهيم وأخوين غير شقيقين هما إسماعيل وإسحاق. المصادر التي يعتمدونها دليلاً على وجود هذه القرابة هي الكتب المقدّسة في الديانات التوحيدية الثلاث. بيد أن بعض الباحثين الغربيين حتى يبعدوا الشبهة عن الدور السلبي المفرط والمضطهِد لليهود في أوروبا خلال قرون عديدة يدفعون بهذا الإضطهاد بعيداً عنهم ليلقوه على العرب ويشيروا بأن هذه القرابة جعلت من العرب والعبرانيين ألدّ الأعداء الذين عرفهم التاريخ، وأن العرب يعيشون في صراعات دائمة مع جيرانهم من «الإتنيات» الأخرى. لا يخفى على الباحث المطّلع والمحايد بأن هذه التلميحات تجافي الحقيقة، حيث تؤكد المصادر التاريخية وآراء كثير من المستشرقين بأن العصور الإسلامية كانت ذاخرة بأرقى الأمثلة عن قبول العرب والمسلمين للإختلافات والتعددات الدينية بعكس المجتمعات الأوروبية. في كتابه Tristes Tropiques كتب العالم الإجتماعي الشهير Levi-Strauss (اليهودي) بأن «الإسلام هو مخترع التسامح في الشرق الأوسط.... وأن هذا التسامح الذي أبداه الرسول العربي إزاء غير المسلمين هو بمثابة انتصار دائم عليهم يضعهم بموضع متأزّم ومستمر بسبب التناقض بين االتوجه العالمي للوحي الإلهي في أديانهم وبين التسامح الذي ابداه الإسلام إزاء المعتقدات الدينية الأخرى». كما يؤكد كثير من الكتّاب من أمثال Gibb et Bowen، بأن علاقة العرب والمسلمين مع غيرهم من المسيحيين واليهود لم تكن اضطهاداً دينياً وإن استخدم الدين كغطاء له وإنما كان في الغالب الأعم بسبب المتغيّرات الإقليمية الناتجة عن ارتباط غير المسلمين وعلاقاتهم بالدول التي كانت في حروب مع الدول الإسلامية، والدليل على ذلك كما يجمع المؤرخون اليهود أنفسهم بأن التسامح الإسلامي اتجاه اليهود لم يكن له مثيل في أي دين ومجتمعات أخرى غير إسلامية وذلك بسبب تسامح الإسلام وعدم وجود علاقات كانت تربط اليهود في وقتها بدول أجنبية.
إن كان هذا التسامح يُعدّ دليلاً على العلاقات السلمية التي دفعت اليهود إلى الإلتجاء الى البلاد العربية بعد انهيار الأندلس، إلّا أن دخول الفكر الصهيوني على خط المواجهة مع العرب عبر احتلال فلسطين وطرد سكانها وممارسة العنف لإبعادهم وإقصائهم دفع بالعلاقات اليهودية العربية الى أسوأ ما تكون العداوات بين شعوب منتمية الى أعراق متجانسة ولغات متقاربة.

الفكر الصهيوني

لماذا استحوذ الفكر الصهيوني على غالبية المجتمع اليهودي، إلى درجة أن يستبيح كثير من الحاخامات المتعصبين ومعهم الشريحة الأكبر من اليهود في العالم، الدم العربي ويفتخرون بقتلهم الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، بل وينتشون لفكرة إلقاء قنبلة ذرية لابادة الشعب الفلسطيني بكامله؟
لعلّه من المفيد أن نفهم الحالة النفسية الدينية التي توارثها كثير من اليهود عبر الأجيال وأضاء عليها الفكر الصهيوني من خلال زعمه أن هذه الأرض أعطاها الله لإسرائيل فهي ملك لا ينازعهم عليها أحد، وأن إسرائيل استوطنت خلال فترة من الزمن عليها وأقامت مملكتها التاريخية لمدة سبعين سنة ونيّف. دون أن تقنع هذه المزاعم الباحثين عن الحقيقة عن وجود شعوب استوطنت هذه الأرض قبل هجرة اليهود إليها، فإن شعوباً قبلهم وبعدهم استوطنوا هذه الأرض لآلاف السنين وخاصة الكنعانيين العرب الفلسطينيين، فهم أحق بتملّكها والإقامة فيها خاصة وأن وجودهم فيها لم ينقطع خلال آلاف السنين. بيد أن المبررات التي دغدغت مشاعر كثير من اليهود وبلورت شخصيتهم عبر كل الأجيال، والتي كثيراً ما تشدق بذكرها وتردادها عدد كبير من الحاخامات تعود جذورها الى العلاقة التي باعدت بين سيدتنا سارة وسيدتنا هاجر عليهما السلام، والتي انتهت بطرد سيدتنا هاجر وابنها إسماعيل إلى الصحراء، مما سيعطي المبرر الديني لإسرائيل لطرد الفلسطينيين وكل من يهدّد أمنها ويحدّ من توسّعها.
هؤلاء الحاخامات يرددون في أحاديثهم وعظاتهم ما ورد في كتابهم المقدّس بكونهم الإبناء الشرعيين لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن طريق إبنه إسحاق بينما يصفون العرب بأنهم أبناء الجارية غير الشرعيين لسيدنا إبراهيم عن طريق إبنه البكر إسماعيل. طفولة سيدنا إسماعيل كانت بلا شك يخالطها الضحك واللهو مع أخيه الأصغر سيدنا إسحاق وأن قصص هذه الطفولة البريئة لم تكتمل بسبب أن سيدتنا سارة وضعت حدّاً لهذه العلاقة بطرد إسماعيل وأمه في الصحراء البعيدة، وذلك بذريعة تهكّم إسماعيل من أخيه إسحاق كما ذكر «العهد القديم»: (ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم أطرد هذه الجارية وابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحاق، فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه فَقَال اللهُ لَهُ: لاَ يَسُوءُ فِي نَفْسِكَ أَمْرُ الصَّبِيِّ أَوْ أَمْرُ جَارِيَتِكَ، وَاسْمَعْ لِكَلاَمِ سَارَةَ فِي كُلِّ مَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ لأَنَّهُ بِإِسْحاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وابْنِ الْجَارِيَةِ أَيْضاً سأجعله أمة لأَنَّهُ نسلك).
وهنا أريد أن أتوقف لإعادة قراءة هذه القصة التي زرعت في نفس كثير من اليهود عبر كل الأجيال التي مرّوا بها اعتقاداً بأن حادثة طرد سيدتنا سارة لسيدتنا هاجر وابنها إسماعيل عليهم السلام إلى الصحراء يبنى عليها ويستنبط منها أحكاماً تنسحب الى علاقة أبناء إسحاق مع أبناء إسماعيل إلى العصور القادمة. يستنبطون من هذه الحادثة في المقام الأول أن سارة بنظرتها الثاقبة أيقنت مدى خطورة تواجد إسماعيل مع إسحاق تحت سقف واحد، فاستفاضوا بشرح معنى «مزح» وألبسوها معنى السخرية والاضطهاد والوحشية والتهديد لحياة إسحاق بالقتل، رغم أن سيدنا إبراهيم لم يجد بأن هذا المزاح يشكّل أي تهديد لإسحاق (فقبح الكلام جدا (أي كلام سارة) في عيني إبراهيم لسبب ابنه)، وأن سارة بعفويتها الإنثوية نطقت بالحقيقة بعدها مباشرة عند تبريرها لغضبها من إسماعيل ليس بسبب المزاح وإنما بهدف حماية إسحاق الإبن الشرعي وحرمان إسماعيل من مقاسمة إرث إبراهيم (بمعنى النبوة والرسالة) باعتبار ان «ابن الجارية» لا يمكن له أن يحمل التبعات الكاملة لعلاقة النسب التي تُعطى أساساً للإبن الشرعي. بناء على هذا التطويع الاستنباطي المنحرف وغير المنطقي للنص التوراتي، ولما طلبته سارة من إبراهيم بطرد «الجارية» هاجر وإبنها، فسيكون من حق اليهود طرد أبناء إسماعيل إلى الصحراء للهلاك إذا سببوا لهم القلق والإزعاج، وأن إسرائيل، من أجل حماية نفسها يمكنها اللجوء دائماً إلى إقصاء العرب وزعزعة استقرارهم، إضافة إلى اعتبارنا نحن العرب أبناء «هاجر الجارية» لا حق لنا بوراثة سيدنا إبراهيم لا في أرضه التي أورثه الله لإبنه إسحاق وذريته ولا على اعتبارنا بأننا ننتمي إلى أديان توحيدية تدعو إلى عبادة إله واحد سرمدي، فهم الوحيدون الذين يعتبرون شعب الله المختار وباقي الشعوب كما يصفهم التلمود وكما يتبجح به دائماً كثير من حاخاماتهم ومسؤوليهم السياسيين بأنهم أقرب الى الحيوانات.
ولكن الله تعالى بمشيئته وعنايته شاءت أن يصطحب سيدنا إبراهيم زوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى صحراء «فاران» في وادٍ غير ذي زرع حيث دعا الله بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأن يرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. واستجاب الله لهذا الدعاء وفجّر من تحت أقدام سيدنا إسماعيل بعد أن كاد يهلك من العطش ينبوعاً من الماء «زمزم» ما زال الى الآن دليلاً على عظمة الله وعلى استمرارية دعوة سيدنا إبراهيم التوحيدية وذلك ببناء أول بيت يعبد فيه الله تعالى في مكة المكرمة التي ستتداعى الأمم لزيارته والحج الى بيت الله الحرام استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

استمرارية الدعوة الإبراهيمية

فكان ذلك دليلاً من الله على استمرارية الدعوة الإبراهيمية في التجلّيات الإلهية الثلاثة التي تظهر تباعاً وفقاً لما جاء في «العهد القديم» في سفر التثنية حيث ذكرت ما قاله نبي الله موسى عليه السلام عندما حضرته الوفاة: «أقبل الرب من سيناء وأشرق من سائير وتلألأ في فاران». فذكرت هذه الآية بأن النبوءة الأولى كانت قد تحققت بمخاطبة الله سيدنا موسى في الوادي المقدّس في سيناء وأن النبوءة الثانية التي لا يؤمن بها اليهودي مطلقاً ويؤمن بها المسلمون والمسيحيون على حد سواء قد تحققت أيضاً بظهور الملك جبريل لسيدتنا مريم لبشارتها بولادة السيد المسيح عليهم السلام في «سائير» من ناحية بيت لحم في فلسطين، والنبوءة الثالثة التي نؤمن بها كمسلمين قد تحققت أيضاً وهي هبوط الملك جبريل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء (على جبل فاران) لإعلامه بنبوته وبرسالته الخاتمة إلى الناس جميعاً. ألم يسكن أبناء إسماعيل كما تذكر التوراة في فاران، ولم يتلألأ فيها أي دين آخر غير ما جاء به النبي محمد من ذرية إسماعيل، فتجلّت بنبوته حكمة الله أن جعل في ذرية إسحاق النبوة واختتمها بنبوة نبي يظهر في فاران من ذرية إسماعيل.
رغم هذه النبوءات الثلاث لم يؤمن اليهود بمجيء سيدنا المسيح عليه السلام وما زالوا يتوقعون ظهور مسيحهم المنتظر، وإن كنا نحترم إنسانية اليهود وإيمانهم بالله وبالرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله وبالأسس الأخلاقية التي جاء بها هؤلاء الرسل عليهم السلام، دون أن ننسى احترامهم للحياة البشرية وهو ما أكده القرآن الكريم {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاًً} إلّا أننا نذكّرهم بأنهم رفضوا دعوة نبيْين مرسليْن من الله جاءا بعد سيدنا موسى وهما سيدنا المسيح وسيدنا محمد عليهما السلام، ولم يتوقفوا على هذا الرفض لدعوتهما فتآمروا مع الرومان - حكّام تلك البلاد في حينها - على حياة سيدنا المسيح، ومن بعده تآمروا مع مشركي العرب على حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . ورغم ذلك فقد اعتبر النبي محمد في أول وثيقة دستورية لدولة المدينة بأن كل من يسكن في يثرب من اليهود أنهم أمة واحدة مع المسلمين لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات دون أدنى تفريق أو تمييز.
خلال كل العصور التي عاشها اليهود فيما بعد بجوار معتنقي الديانات التوحيدية من مسيحيين ومسلمين، لم يستجيبوا إلى تعاليم الله تعالى، فقد نادوا بالإنغلاق وإقصاء الآخر ونبذه، حين أصبح الإنفتاح والعيش المشترك والتنوّع الديني التوحيدي مطالب أساسية تبعث بالأمل للإنسانية جمعاء. ولكنهم فسّروا وحرّفوا الخطاب الديني لصالحهم ولصالح أتباع دينهم بشكل انتهكت به حقوق الشعوب الأخرى غير اليهودية. رغم أنهم لم يجدوا ملجأً يلتجئوا إليه عندما اضطهدوا وعانوا من سياسة التفرقة العنصرية في أوروبا إلّا في بلاد «أبناء عمهم» في الأندلس وبلاد العرب.

أساليب وخاصة الكذب والإرهاب

بعد مرور آلاف السنين أراد اليهود المجيء إلى فلسطين وإنشاء كيانهم الخاص بهم بتشجيع وتخطيط من قبل الحركة الصهيونية، ولكنهم لم يبالوا مطلقاً بأنه يعيش على هذه الأرض منذ البداية شعب آخر. لا نستطيع أن نتخيّل بأن مشروعاً مماثلاً يمكن أن تنادي به شعوب أخرى مثل الكنديين الكيبيك والمالويين أو الشعوب المؤسسة للولايات المتحدة الأميركية. مجرد تخيّل رغبة هذه الشعوب بالعودة إلى ديارهم الأصلية وطرد الشعوب التي تسكن فيها وتأسيس كيان جديد خاص بهم، يعتبر من الإفتراضيات المحضة التي تستفزّ كل قيم الحق والعدالة وتأسس لمنطق أخرق وهو الإستيلاء على الدول بناء على حق تاريخي مزعوم، رغم ان خروج هذه الشعوب من بلادهم لم يتجاوز الخمسة قرون ولا يُعدّ بآلاف السنين.
لتحقيق هذا الحلم الخيالي لجأ الصهاينة إلى كافة الأساليب وخاصة الكذب والإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان، وانتزعوا حقوق الملكية من أصحاب الأرض الشرعيين وانتهكوا مواثيق القوانين الدولية، ولو استطعنا حصر المفردات اللفظية التي تنطوي عليها هذه الأفعال التي قام بها كيانهم المغتصب الى الآن لوجدنا انها تشتمل على كل معاني الحقد والدمار وقتل الأبرياء واستخدام العنف واحتلال الأراضي، وضمّها إليهم ومحاصرة الشعوب، والعنصرية الدينية والعرقية، وترجيح الحق التاريخي على كافة الحقوق الأخرى. عدا عن أنهم خلال احتلالهم لفلسطين لم يستخدموا قط العبارات التي تدلّ على معاني الحب واحترام التنوّع الديني والتسامح والعدل والمساواة والعيش المشترك، والحوار والسلام.
نتساءل فيما لو كانت هناك وسائل أخرى أتيحت لهم ولم يستخدموها منذ احتلالهم لأرض فلسطين والتي كان من الممكن أن تمكّنهم من العيش بسلام على أرض فلسطين التي نحبها جميعاً دون طرد أهلها وأصحابها وهدم بيوتهم. نتخيّل لو أن اليهود الذين هربوا من مجازر النازية طلبوا مساندة الفلسطينيين في العيش بسلام على أرض فلسطين دون هدف إقامة دولة خاصة بهم أو طرد الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وعدم استخدام العنف معهم لكانوا وجدوا كل ترحيب وحسن استقبال من الفلسطينيين تماماً كما استقبلت الشعوب العربية اليهود الذين هربوا من اسبانيا بعد انهيار دولة الأندلس، بل وكما استقبل الفلسطينيون أنفسهم الهجرات الأولى بعد الحرب العالمية الأولى لليهود وأقطعوهم أراضيهم عن طيب خاطر على سبيل الإعارة، بشهادة اليهود أنفسهم، دون أن يعلم الفلسطينيون بأن هجرة اليهود كانت منذ البداية وبتحريض من الصهيونية بهدف تأسيس دولة إسرائيل.
نعود إلى القصة التي جاء ذكرها في العهد القديم وتكلّمنا عنها في البداية عن طرد سيدتنا سارة لسيدتنا هاجر عليهما السلام ومعرفة الآثار التي تركتها على ذاكرتهم الفردية والجماعية. هذا التصرف المحفور في لاوعيهم الجماعي حتى لا أقول في وعيهم المستنبط من نصوصهم الدينية، يفسر لنا علاقة دولتهم الغاصبة مع البلاد المجاورة. عندما طردت جدّتهم سارة جدّتنا هاجر وابنها إسماعيل لم تتخيّل ولو للحظة مخاطر الطريق والعيش في صحراء قاحلة بلا ماء ولا طعام، لم تشعر بأحاسيس زوجها إبراهيم عند ترك فلذة كبده يغادر الصحراء بعيداً عنه، ولا إلى مشاعر الطفل إسماعيل بالخذلان والطرد من منزل أبيه. ما أرادته سارة عليها السلام حسب ما فهمه اليهود من العهد القديم هو منح إسحاق الشعور بالأمن مهما كان الثمن. هذا الأمن الخيالي والمخادع وليس الأمن الحقيقي والعادل. هذا السلوك الأناني الذي يبعد عن طريقه كل ما هو «مغاير» ولا يرى إلّا «الأنا الشخصي والذاتي». يزعمون بأن كيانهم الغاصب حتى يستمر ويشعروا بالأمان عليهم قتل مئات الآلاف من الأرواح، وطرد السكان من بيوتهم وأوطانهم، ونشر الخوف والرعب ليس في البلاد العربية ولكن في كل مناطق العالم فيتّبعون سياسة التفريق وزعزعة الأنظمة السياسية الأخرى، ويحرقون ويدمّرون بوحشية آلاف المباني ومئات الجسور، يشيّدون جدران العار ليعزلوا قرى ومساكن أصحاب الأرض الأصليين عن أراضيهم التي اغتصبوها منهم، ويحاصروا بلاداً بأكملها يسكنها ملايين الناس زورا وبهتانا.
لو أن سيدتنا سارة عليها السلام تصرّفت تصرّفاً آخر غير أناني حسب شخصيتها التي فهمها اليهود من العهد القديم، لعلمت بأن التهكّم الذي يخرج من طفل صغير إزاء أخيه الذي يلعب معه لا يستحق أن يعاقب عليه بالطرد والحقد ولكن بمزيد من الحب والعطف. وأن الأمن لإبنها كان سيصبح أكثر عدلاً ومرضاة للّه تعالى لو تركت «ابن الجارية» يعيش بسلام ومساواة لكامل حقوقه جنباً إلى جنب مع أخيه إسحاق عليهما السلام.
وإذا كانت رحمة الله تعالى رعت سيدنا إسماعيل عليه السلام فلم يتعرض لمخاطر الطريق ولا للموت عطشا في صحراء قاحلة، فماذا سيفعل الله تعالى بكيان استولى بطريقة غير شرعية على أراضٍ يعيش عليها شعب ينتمي الى هذه الأرض، هذا الكيان الذي ما زال منذ عام 1948 يطرد السكان الأصليين من أجل ضم أراضيهم إليه ويقتل مئات الآلاف من الأبرياء، أطفالا ونساءً وكباراً، ويدمّر بيوتهم وينتهج سياسة التفريق من أجل السيطرة على مقدرات الشعوب. من مزاعم هذا الكيان الغاصب أنه يفعل ذلك من أجل حماية أمنه واستقراره.

عنف باعتراف الحاخامات

بيد أن هناك مبررات أخرى لهذا العنف صرّح به كثير من الحاخامات وردّدوه على مسامع أعضاء الكنيست وفي المحافل الدولية اليهودية حيث تشير تأويلاتهم لنصوص التلمود بأن الحرب النهائية التي سيخوضها اليهود يجب أن تكون مع أبناء إسماعيل، وسوف يرتفع الصراخ أثنائها ويسمعه الله ويرسل المسيح لنصرة اليهود: (Ron Chaya, la Torah, Le conflit final, Sukkat David 5 janvier 2009).
نحن العرب لا نكره مطلقاً اليهود لديانتهم ولكن لنا الحق في أن نقول لهم بأنهم أخطئوا في حساباتهم. لسنا نحن أبناء الجارية وليسوا هم الإبناء المدللين، نحن مليارات من المسلمين والمسيحيين نتضرع الى الله تعالى ونؤمن برسله وأنبيائه. لقد شرّفنا الله كما سبق وشرّفهم بالديانة اليهودية بديانتين سماويتين. فبعد أن أرسل الله سيدنا موسى عليه السلام أرسل لنا سيدنا المسيح عيسى ابن مريم وسيدنا محمد عليهما السلام لهداية البشر. ليست لدينا أية علاقة تربطنا بالشعوب الوثنية التي تخلّت عن عبادة الله الواحد الأحد وعبدت الأصنام - وهم الذين تكلمت عنهم التوراة وأمرت بمجافاتهم ومحاربتهم - حتى يعتبرنا اليهود بأننا أقلّ منهم مقاماً ومكانةً فيعاملوننا بازدراء. أننا جميعاً متساوون أمام الله تعالى.
لا تنصتوا إلى أقوال بعض حاخاماتكم بأنكم مساوونٍ للّه تعالى الذي أعطاكم مهمة إكمال إنجاز الخليقة الأولى، فسمح لكم بالصلاة أمامه وقوفاً بعكس المسيحيين الذين يتمتعون بنصف حرية إذ هم يصلون للّه تعالى راكعين وبعكس المسلمين الذين سلبوا هذه الحرية كاملة فهم يصلون للّه ساجدين. صلواتنا جميعاً نتوجه بها الى الله تعالى بقلوب راضية ومستسلمة بكامل حريتها ووعيها الى الخالق عزّ وجلّ. وقوفا، ركوعاً وسجوداً... ألم تكن هي حركات الصلاة التي اختارها الله لتؤدّى في الإسلام خاتم الرسائل السماوية؟
أيها اليهود المتطرفين أفتحوا لنا قلوبكم واسمعونا جيداً أننا لا نكرهكم لدينكم ولا لعقيدتكم ولا لأنبيائكم الذين نؤمن بهم ونجلّهم، إذا استمريتم في هذا الحقد والتدمير والتفريق وعرض العضلات كما يروّج له الصهاينة فإنكم لن تربحوا في النهاية. فسوف يأتي اليوم الذي تروا فيه الأجيال القادمة من العرب أقوى منكم وأكثر تصميماً على الإنتقام واسترداد أرضهم المحتلة كل أراضيهم، من سيأتي إليكم بالعون ويصون الحياة القيّمة والمقدّسة لأطفالكم والتي هي حياة بريئة مثل حياة أطفالنا.