بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيار 2023 12:00ص الشيخ حسن خالد: مجدُ دار الفتوى أُعطي له

حجم الخط
كثيراً ما كنت أتساءل عن صفات القائد بما فيها القائد الديني لمعرفة فيما لو كان فن القيادة لا تستدعي من هذه الشخصية أن تولَد بقدرات استثنائية، بل تصقل مهاراتها وتطور نفسها وتطوع الظروف التي تحيط بها فتتصرف بحكمة في الأوقات الصعبة وتنشد المصلحة العامة التي لا تحمل حقدا على أحد ولا تبتغي انتقاماً أو حبكاً لمؤامرات خبيثة، بعيدة في تصرفاتها وأفعالها عن الأطماع الشخصية، والصفقات المشبوهة المزيفة، والأشغال الوهمية المفضوحة، أو تبطئها لتجعل منها أميل الى السكوت والرقود حين تستدعي الأحداث المتلاحقة الاستنهاض وشحذ الهمم. لم يكن بذهني الوقوف على هذا القدر من السؤال بل لأثب منه الى سؤال آخر عن احتمالية أن تضاف الى هذه المهارات القيادة الطبيعية والمكتسبة التي سبق ذكرها، الهيئة والمظهر الخارجي والتي قد يتصف بها القائد من خلال صفات جسدية معينة ونظرات ثاقبة متقدة وقامة ممشوقة في الوقوف والمشي والجلوس، وبما تستتبعها من صفات التعبير بالصوت براحة وسهولة في الكلام والإفهام وتعابير مهدئة ومطمئنة أو مستنهضة في إشارات اليدين عند المخاطبة وإعلان المواقف.
الأبحاث التي قام بها ابتداء من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الطبيب الإيطالي Marco Ezechia Lombroso أهم مؤسسي علم الإجرام في إيطاليا، أفضت الى القول بأن هناك أشكالاً إجرامية يتشارك فيها المجرمون من شكل الجبهة والرقبة والأنف، فهل هناك أيضاً أشكال وهيئات جسدية للقيادة الناجحة. لا توجد إجابة محددة واحدة لمعرفة فيما إذا كانت السمات الجسدية مرتبطة بالشخصية القيادية. ومع ذلك فقد أظهرت الأبحاث أن بعض الخصائص الجسدية من المرجح أن ترتبط بالقيادة أكثر من غيرها، مثل طول القامة أو تناسقها، والتواصل البصري، والوقوف باستقامة، والإيماءات بشكل أكثر تعبيراً وامتلاك أصوات أعلى وأكثر ثقة فيبدون أكثر موثوقية وإقناعاً. من مؤيدي المظاهر الجسدية للشخصية القيادية البروفيسور أوغوز علي أكار، من كلية كاس للأعمال، فهو من خلال هذه النظرية يميل الى تحديد ما إذا كان من المحتمل أن يصبح الأفراد الذين تتوفر فيهم هذه الملامح قادة مستقبليون.

دراسة شخصية المفتي الشيخ حسن خالد

من هنا تبرز أهمية دراسة شخصية المفتي الشيخ حسن خالد من خلال هذه المكونات الثلاثة للشخصية القيادية التي اتصف بها خلال حياته وممارساته في القضاء والإفتاء.
بيد أن ما نملكه من معلومات عن ممارسته الإفتاء كفيلة بأن تدفعنا الى الإطمئنان بأنه كان شخصية قيادية من النوع الأول تستحق أن تدرّس وتكتب عنها الأبحاث في جميع أبعادها ومكوناتها.
ما عرفته عنه، ولم أجده في غيره من المفتين، اهتمامه بالطلبة في أزهر لبنان منذ المقابلة الشفهية التي كان يحرص على إجرائها شخصياً مع مدير الأزهر إلى حين تخرّجهم، وكان يستتبعها زياراته المتكررة الى الأزهر والإلتقاء بالطلبة وحرصه على زيارة الوفود التي كانت تأتي الى دار الفتوى لزيارة الأزهر وتعريفهم به. كما كانت تعرف عنه محاسبته الشديدة للجهاز الديني، واستبعاده لبعضهم وتجريدهم من الزي الديني ممن كانت تحوم عليهم بعض الشبهات والتصرفات، كما عرفته من خلال دروسه الصباحية بعد صلاة الفجر في مسجد الإمام علي والحرص عليها بشكل متتابع في شهر رمضان حيث كان المسجد يغصُّ بأعداد المصلين ورائه للاستماع الى دروسه وتوجيهاته. كما عرفته بصراحته وعدم حبكه للمؤامرات داخل الجهاز الديني وخارجه، ولا دخوله في مشاريع وهمية ووعود كاذبة، ولا إقصائه للعلماء البارزين بل على العكس كان يحرص على تقديمهم وإضفاء المهام لهم والسفر معهم الى الخارج، حتى أنه لا تكاد تخلو صور أرشيفه من اجتماعه معهم ومشاركتهم له في المناسبات العديدة. في آخر لقاء جمعني به قبل سفري للدراسة في فرنسا بمنحة قدمتها الحكومة الفرنسية الى دار الفتوى، أبدى لي كل حزن لسفري مما فهمت منه بعدم تشجيعه لي بالدراسة في الخارج من باب خشيته على عدم عودتي الى لبنان بعد حصولي على الدكتوراه، فأكدت له بأنني حريص على العودة وعلى أن أكون وفيّاً لدار الفتوى بما سمحته لي من باب اكمال دراستي في فرنسا.
ما عرفته عنه هو انفتاحه على رجال الدين في الطوائف والمذاهب الأخرى وكذلك في علاقاته مع السياسيين من مختلف الإنتماءات والاتجاهات. كما عرفته منه هو حيويته المنقطعة النظير في كل ما يخدم المسلمين واللبنانيين، فما كان ليهدأ دون حركة وسعي لتطوير وتحديث المؤسسات الإسلامية، ابتداء من المؤتمر الذي عقده في دار الفتوى عن واقع وتطوير المؤسسات الإسلامية، وانتهاء بهمومه الوطنية الى حين استشهاده والتي جعلت منه رجل التوازنات العابرة للطوائف ومفتي الإصلاح الديني والسياسي ونقطة الارتكاز في كل اللقاءات الوطنية وفي أي اجتماع داخل لبنان وخارجه من قمم عرمون في العامين 1975 و1976 إلى اجتماعات دار الفتوى 1983 و1984 وما بعدها إلى اجتماعات الكويت شباط 1989 في سبيل أن يبقى لبنان عربياً سيداً مشعّاً بقِيَم الحضارة والعيش المشترك.
لم يكن الشيخ حسن خالد ليلتزم الصمت مطلقاً دفاعاً عن الاستحقاقات والانقضاضات على حقوق المسلمين ولا على التعدّي على حقوق غيرهم. فمن صلاته الجامعة وخطبته في الملعب البلدي في صبيحة عيد الفطر سنة 1983، الى خطبه ومواقفه ومقابلاته، كان يهاجم دون مواربة وخوف الميليشيات التي اقتحمت المناطق الآمنة في بيروت ويعلن موقفه الحاسم ضد حمل السلاح وشنّ الحروب وتسليح الطوائف التي كان يعتقد جازما بأنها لن تخلّص لبنان من العبثية. بل ووقف بكل حزم ضد الأصوات داخل طائفته التي دعته لحمل السلاح وتكوين ميليشيا طائفية كباقي الميليشيات المنتشرة في لبنان.
كان الشيخ حسن خالد يؤمن بنهائية لبنان وأنه وطناً لكل أبنائه ففي الواحد والعشرين من أيلول 1983، عُقد مؤتمر إسلامي في دار الفتوى ضم القادة الروحيين والسياسيين من المذاهب الإسلامية كافة؛ رئيس مجلس النواب السيد حسين الحسيني ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام محمد مهدي شمس الدين، ورئيس الحكومة الدكتور سليم الحص، ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، والوزير والنائب وليد جنبلاط وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ محمد أبو شقرا، وعدد من الوزراء والنواب المسلمين. اتخذ هذا المؤتمر قرارات عدة أُطلق عليها اسم الثوابت الإسلامية العشرة. تنص في بندها الأول والأساسي على أن لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دوليا، سيداً حرّاً مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم، وهو لجميع أبنائه، له عليهم واجب الولاء الكامل ولهم عليه حق الرعاية الكاملة والمساواة، وتلتها البنود الأخرى للثوابت الإسلامية من كون لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، ذا نظام يقوم على الحرية الاقتصادية، ويقرّ بنظام التكافل الاجتماعي، وهو متلازم في وحدة مناطقه، ورافض للمشاريع التي تؤدي الى اللامركزية واللجان المحلية والكونفدرالية والفيدرالية، مع تأييد اللامركزية الإدارية، ومنادٍ بإلغاء الطائفية السياسية من نظام الحكم ومن كافة مؤسسات الدولة، ورافض كل أشكال القوى والسلطات خارج إطار الدولة ورافض للميليشيات الحزبية، وداعٍ الى عودة جميع المهجرين خلال الحرب اللبنانية الى ديارهم والى قراهم، وساعٍ الى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومحاربته وإخراج كل القوى والجيوش غير اللبنانية من كافة الأراضي اللبنانية. من هذه الثوابت الإسلامية العشرة كانت انطلاقة التفاهم الإسلامي - المسيحي الذي مهّد الطريق لاتفاق الطائف.
إزاء ما حققه المفتي الشهيد من إنجازات لم يكن مستغرباً أن ترد في حينها الى مكتبي في دار الفتوى بعد مرور عشر سنوات على استشهاده رسائل موجهة الى مفتي الجمهورية، وقد كتب عليها اسم سماحة الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية. انطلاقاً من هذه الإنجازات فهمت بأن لدى الكثير من اللبنانيين والعرب أن المفتي الشيخ حسن خالد ما زال ماثلاً حاضراً قائداً ملهماً قائماً على رأس هذه المؤسسة... حقاً مجد دار الفتوى أُعطي له.

* مدير عام دار الفتوى سابقاً