بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 كانون الثاني 2019 12:04ص اللّغة العربيّة بين التّعريب والتّغريب

حجم الخط
في الثامن عشر من شهر كانون الاول الماضي وكما في كلّ عام تمّ الاحتفاء باللّغة العربيّة في يومها العالميّ، وفي أرجاء الوطن العربيّ كالعادة كان الاحتفاء على أشدّه من خلال العديد من الأمسيّات والفعاليّات التي احتضنتها المؤسّسات الأدبيّة وجمعيّات الثقافة والفنون التي تتغنّى باللّغة العربيّة حُسناً وجمالاً وألقاً، والتي تفوّقت على نفسها بكثافة وجودة الأنشطة التي نظّمتها رغم شحّ مواردها المالية في كثير من الأحيان.
ولا شكَّ أنّ لغتنا الجميلة تستحقّ هذا التّذكير بأهميتها وسبل إنقاذها من قبضة الأساليب المعجميّة، من أجل التعامل معها كلغة حيّة تفوّقت على كلّ اللّغات في اشتقاقاتها وقياساتها ومحسّناتها البلاغية، وقابليّتها لاستيعاب كلّ جديد في الحياة، وقدرتها على التطور، ولِمَ لا؟
أليست هي لغة القرآن التي حفظها الله سبحانه من التّيه والضّياع؟
أليست هي لغة أهل الجنّة كما ورد في الأثر؟ 
أليست هي لغة المسلمين عربًا كانوا أم غير ذلك ؟ إذ من المعلوم أنّه لا تصح صلاة المسلم إلا بقراءة القرآن في صلواته.
أليست هي اللّغة الـتي استوعبت ألفاظا أعجميّة ورد بعضها في القرآن لتثبت قدرتها على التفاعل مع ما حولها دون حساسية أو تخاذل؟
ألــم تستمرّ على شموخها وعزّتها منذ ما قبل البعثة المحمّديّة الشّريفة وحتى يومنا؟ 
ألم تُظهر الأرقام والإحصاءات والدّراسات العلميّة حديثًا أن العربية هي أمّ اللغات وأوسعها انتشاراً في بلاد الدّنيا؟
ومع ذلك كله يا سادة ما زالت لغتنا تشكو من التّعريب والتّغريب!!!
كيف نفاخر بلغتنا ونحتفي بها ونحن حرّفنا هويّتها في كلامنا وأحاديثنا ومجالسنا ويوميّاتنا وحشوناها حشواً بكلمات إنكليزية متعدّدة دخيلة معرّبة مقترضة مدينة؟؟!!
كيف لنا أن نجاهر بعروبتنا وجذورنا ونحن سعينا سعياً حثيثياً لتعليم أطفالنا لغة أجنبيّة في أرقى المدراس قبل إتقانهم لغتهم الأمّ؟؟!!
كيف لنا أن نواجه موجة إقصاء لغتنا ومحوها من خارطة الاهتمام الدّوليّ ونحن اعتمدنا في شركاتنا ومؤسّساتنا الكبرى الإنكليزيّة لغة رسميّة في التخاطب والتّعامل وتعميم المراسلات والتّعميمات؟؟!!
كيف لنا أن نرتقي بأجيالنا ونفاخر بخرّيجينا وجامعاتنا ما زالت تُصرّ على التعليم باللغة الإنكليزية في غير كلّياتها وأقسامها المتخصّصة في اللّغة العربيّة؟؟!!
أمّا في وسائل الإعلام والإعلان فحدّث ولا حرج...
تأمّل مثلاً في بلادنا العربيّة لوحات واجهات المحلاّت التجارية المنتشرة هنا وهناك، والتي تقصف أشفار العيون بكلماتها الأجنبية، وبخطوطها الأعجمية وكأنها غير موجودة في بلاد عربية تعتز بلغتها الأمّ وتعمل على حمايتها من التّشوية !!!
ناهيك عن المكاتب التّجارية التي لا يجد فيها العربي موظّفاً عربيّاً يجيد التخاطب معه كما هو الحال في كثير من وكالات خطوط الطيران الأجنبيّة وما شابهها من مكاتب السفر والسّياحة والشحن!!!
أمام هذه الحالة من التغريب التي تعيشها اللغة العربية بين أبنائها لا بد من مبادرات رسمية تعالج هذه الإشكالية، وتضع حدّاً لهذا الهدر في كرامة اللغة والإساءة إليها، وهذه حالة لا تقتصر على بلد عربيّ دون سواه، بل هي حالة تتكرّر في جميع البلدان العربية، وهي في دول الخليج العربيّة أكثر من سواها، بسبب كثرة العمالة الوافدة فيها.
إن الانتصار للغة العربية هو انتصار للأمة، لتحافظ على قوتها ومنعتها من خلال لغتها، وفي سبيل ذلك لا بد من تهيئة كل أسباب القوة والمنعة للأمّة، لتأكل مما تزرع، وتلبس مما تصنع، وتبني نهضتها بسواعد أبنائها، فإذا كانت اللغة تحمي وتحيي الهوية للأمة، فإنها في الوقت نفسه تكتسب قوتها وانتشارها من قوة أمتها، واللغات الأقوى في العالم هي اللغات التي تنتمي لأمم قويّة، وفي التاريخ نرى الأمة المنتصرة هي الأمة التي تفرض لغتها بقدر انتصارها على غيرها، ولغة قوية تعني أمة قوية، ولا حل سوى إنقاذ اللغة من التغريب والتشويه والتهميش، فلغتنا هي هويتنا، ولا مفرَّ من المحافظة على الهوية.
د. علي أيّوب
dr.aliayoub@hotmail.com