بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2023 12:00ص المفتي بكر الرفاعي لـ(اللواء الإسلامي): خطيب الجمعة مُطالب بالإقناع العقلي والتأثير الفكري... وليس الانفعال اللحظي

حجم الخط
من المعلوم أن الخُطبة بمفهومها الشامل تعتبر أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية، وفي كل حالات المجتمع، غير أن خطبة الجمعة تتميّز عن جميع الخطب بميزات وخصائص تجعلها ذات أهمية لا يمكن أن تساويها أو تقاربها أي خطبة أخرى.
فلخطبة الجمعة مكانة خاصة، فهي عبادة أسبوعية تُهزّ بها أعواد المنابر، ويلتقي المسلمون في مساجدهم لسماعها، ويصدرون متأثرين بكلماتها ومعانيها، قد أخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من المنكرات والشرور.
وخطبة الجمعة في عصرنا الحالي ازداد دورها التوجيهي والتوعوي، وبات لزاما على الخطيب أن يكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، فنحن اليوم في أزمة اجتماعية، وأخلاقية، ودعوية، واقتصادية، وتربوية و... وبالتالي فعلى كل خطيب أن يطوّر نفسه وينمّي مهاراته ليكون على مستوى هذه التحدّيات..
فكيف يكون هذا الأمر.. وما هي أهمية خطبة الجمعة وتأثيرها في أيامنا هذه..؟!
هذا ما طرحناه على المفتي الشيخ بكر الرفاعي مفتي بعلبك الهرمل، وكان هذا الحوار..

للخطبة دورها الفعّال في صياغة سلوك الناس

{ نعلم ان خطبة الجمعة تلعب دورا كبيرا في توعية الناس، فهل ما زالت مؤثرة كما يجب؟
- إنها ليست مجرد تكليفٍ عادي بأمر تعبّدي وكفى، لقد احتلّت عبر الزمن مكانة عظيمة لكونها أبرز عناصر التغيير والتأثّر، ولكونها المؤتمر الأسبوعي المصغّر الذي يرسم للناس خارطة الطريقين: الدنيوي والأخروي على حد سواء، هي نقطة اتصال القرار مع الناس، إنها ليست لقاءً اختيارياً خاضعاً للإرادة والرغبة، بل هي فرض على كل مسلم بالغ عاقل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، والحضور غير كافٍ؛ بل يجب عليك الإصغاء للخطبة وتنفيذ مضمونها، ولا يجوز لكأن تنشغل عن الاستماع إليها وفهم مضمونها ثم العمل به، قال النبي عليه السلام: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت»، فهو إنصات كامل للقلب والحواس معاً، لتحقق الخطبة مقاصدها وتؤتي ثمارها. ولا زال الملايين من المسلمين على سطح المعمورة يأمّون الجمعة كل أسبوع متزيّنين متعطّرين مقبلين.
فخطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام لها دورها الفعّال في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، أمر الله الناس بالسعي إليها جمعاً لقلوبهم، وتوحيداً لكلمتهم، وتعليماً لجاهلهم، وتنبيهاً لغافلهم، وردًّا لشاردهم، وإيقاظاً للهمم، وشحذاً للعزائم، وتبصيراً للمسلمين بحقائق الدين والعقيدة، وما يجب عليهم وما لا يجب، ولزاما لما أوردنا ويزيد فإن الدور المحوري لخطبة الجمعة باقٍ ومستمر ما خلا التفاوت بين منطقة وأخرى وخطيب وآخر وزمن والزمن الآخر.

تنمية المهارات ضرورة

{ هل ترى ضرورة تأهيل بعض الخطباء في أيامنا هذه؟ وما رأيك في الخطب الني يغلب عليها السياسة؟
- ليست الخطابة ملكة فطرية فحسب، إنما هي مهارات مكتسبة، وفن له قواعده وأسسه ومصادره ومراجعه، وإن حاجة المتصدّر لهذا الغرض إلى الدُربة والتأهيل كحاجة أي صاحب اختصاص آخر في تخصصه، فما يرنو إليه الخطيب من دعوة وإرشاد وتغيير وإصلاح في المجتمع وكذلك الشرائح المتنوعة والفئات العمرية المتفاوتة التي تستمع للخطبة تحتاج إلى الخطيب المثقف المخضرم، فإذا وُجِدَ الخطيب المؤهّل الموفّق كان أسرع إلى فهم حاجات ومشاكل المجتمع الذي يخطب فيه، مما يكون له الأثر الطيب في الإصلاح؛ فمما لا شك فيه أن للخطبة الجيدة من الخطيب الجيد أثراً مباشراً في توجيه الرأي العام الإسلامي، في إطار كتاب الله وهدي نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - وفق منهج يجمع بين التأصيل والمعاصرة، بين الفهم التام الواعي للكتاب والسنّة، وفقه الواقع الذي نعيشه في عصرنا.
لقد كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعدّه لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، يقول ابن القيم: «ومن تأمّل خطب النبي صلى الله عليه وسلم  وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جلّ جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم»، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم.
ولا يمكن الحديث عن خطبة الجمعة دون التعرّض للجانب السياسي منها لذلك يقول الشيخ علي الطنطاوي: «ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبيّن حكم الله فقط لا آرائه هو، وخطرات ذهنه»، إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافية لمجالس العلماء لكان أحسن».
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات السياسية، والاجتهادات الخاصة، والتي هي عرضة للخطأ والصواب، إنما يركّز على بيان وجه القضية، والأخبار الصادقة عنها، والمنهج الشرعي في التعامل معها، فالحديث عن السياسة ومجريات الأمور التي تحمل تأويلات ووجهات نظر متباينة تكون بمقدار ما يحتاج الطعام إلى الملح، ونحن في محافظة بعلبك الهرمل نُصدر أسبوعيا نقاطا محددة في السياسة تحت عنوان منبر الجمعة، يلتزم بمقتضاها المشايخ في خطبهم ويكون لهم الخيرة في الموضوع الديني شرط عدم الإطالة.
نعم نحن بحاجة دائمة إلى دورات تدريبية تخصصية للخطباء، إن الكثير من تقنيات الخطابة تؤخذ بالتعلّم وبعضها متجدّد يحتاج إلى تحديث مستمر، فنحن نسعى دائما إلى إقامة مثل هذه الدورات وإن كان هناك تقصير كبير في هذا الجانب والله المستعان.

صفات مطلوبة

{ ما هي باختصار صفات الخطيب؟ وما واجبه في عصرنا؟
- يحتل الخطيب مكانا مرموقا وعاليا في مجتمعه وبين الناس، مهمته كبيرة كذلك ينبغي أن تكون همّته، ولا بد من توافر فيه الصفات الفطرية والمكتسبة، نذكر منها:
1- الإخلاص: 
لقد امتدح الله المخلصين من عباده فقال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً}. على الخطيب التجرّد من حظوظ نفسه، فإن آفة الخطابة الغرور فقد كان النبي يعلّم الصحابة أن يقولوا: اللهم إني أسألك لسانا صادقا وقلبا سليما، والكلام إذا خرج من القلب استقرّ في القلب وإذا خرج من اللسان لم يتعدّ الآذان، وقد سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه قائلا: يا أبتِ لِمَ إذا خطبت بكى الناس وغيرك يخطب ولا يبكون؟ فأجابه: يا بني النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.
2- أن لا يخالف قوله فعله:
قال الإمام الغزالي: أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد، وكل من تناول شيئا وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر منه الناس واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون لولا أنه أطيب الأشياء وألذّها لما كان يستأثر به.
3- سمو الخلق:
فإذا ما كانت أخلاقه رفيعة، كريمة، أثّر كلامه في سامعيه، لأن حسن سمعته كالمقدمة للاقتناع بقوله، إذ أن مكانته الخلقية العالية تبعث على تصديقه.
4- حسن الإلقاء:
الخطيب الجيد هو الذي يكون إلقاؤه حسنا وجيدا لأن شخصيته وإشارته وجهارة صوته وحلاوته، وحسن الهندام كله عون على نجاح الخطبة ونحن نقرأ خطبا كان لها الدوي حين ألقيت ولم تكن إلّا عادية، لأنها استوحت تأثيرها من الأسباب التي صاحبت إلقاءها.
5- الموضوعية في إلقاء الخطبة:
وتعني هذه الصفة أن يكون الخطيب مراعيا في خطبته حال السامعين من الوقت المناسب وحالهم من الثقافة وحاجتهم إلى موضوع كلامه فهذا عبد الله بن مسعود يسأله تلاميذه الزيادة في المواعظ فأجابهم بأن رسول الله كان يتخولهم بالنصيحة مخافة السآمة، فالوقت المناسب له الأثر العظيم في تقبّل الكلام الملقى على السامعين وكذا ثقافة السامعين يجب مراعاتها، قال الإمام علي رضي الله عنه: خاطبوا الناس على قدر عقولهم أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
6- عدم تشتيت الخطبة:
وتعني هذه الصفة أن تكون خطبته ذات موضوع واحد تعالجه بعيدة عن الاضطراب والإغراب ليسهل على السامعين فهم المراد منهم والإحاطة بالموضوع كاملا.
7- سعة الثقافة: لا بد للخطيب الناجح أن تكون جعبة معرفته وعلمه مليئة ذاخرة، ومكتبة الخطيب جزء من كيانه، والخطيب الناجح خبزه الكتاب، وماؤه العلم، لا تطلع عليه شمس إلّا وعنده علم جديد.
قيل لعبد الملك بن مروان: عجّل إليك الشيب يا أمير المؤمنين: فقال: وكيف لا يعجّل عليّ: وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين، والحق أن الخطيب يعرض على الناس عقله، ويعرض عليهم ما عنده من تجربة أو فكرة أو عقيدة، الحياة كلها مجاله وميدانه.
هذا بعض ما أحببت إيراده ويبقى الكثير فما هو متجدد لا يحيطه المحدد.

علم وتأثير وليس انفعال لحظي

{ ما كلمتك الأخيرة لكل خطيب في لبنان في ظل الظروف المحيطة بنا: وطنيا ودعويا واجتماعيا؟
- ندعو الخطباء الأجلّاء إلى هدي وطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم - في الخطابة الهادئة الرزينة الرصينة الشائقة الرائقة، التي تهتم بالإقناع العقلي والتأثير الفكري، وليس الانفعال اللحظي، وإثارة العواطف بصورة مؤقتة ولمدة قصيرة قد لا تتجاوز مدة الخطبة ذاتها فقط، كما أوصي نفسي وإخواني الخطباء كافة بضرورة الرفق والاتزان أثناء الخطبة؛ فالخطبة القوية المؤثرة ليست بعلو صوت قائلها ولا بشدّة صخبه وضجيجه، بل بما تحمله من معانٍ راقية، ومضامين قوية، وأفكار جذابة.
أيها الخطباء عليكم الدعوة إلى نماذج القدوة العملية الحسنة وتجلية وتوضيح هذه النماذج الحقيقية السابقة والمعاصرة أمام الشباب والمجتمع كله بأسلوب شائق رائق يبين لنا نُبَذاً من سيرهم العطرة، وكيف كانوا قدوة في الخُلُقِ والعلم والمعاملة الحسنة، ونصرة الحق والوقوف في وجه الباطل بكل بسالة وشجاعة وإيمان وثقة فيما عند الله تعالى، وكيف تحمّلوا الشدائد في سبيل الدعوة إلى الإسلام وما فيه من قِيَم وفضائل، لأن السائد الآن في وسائل الإعلام هو ثقافة حب التملّك والاقتناء والبحث عن الثراء السريع الواسع بأي شكل، وبأي وسيلة، ومن أي طريق، وأن كل شيء قابل للبيع والشراء حتى الذمم والضمائر، والدعوات المقيتة إلى الانحلال والشذوذ وغيرها وهذه الثقافة ثقافة فتَّاكة، وهي كفيلة بالقضاء على أية أمة أو جماعة، وكفيلة بتدمير أي مجتمع يتبنّاه.