الحمد لله خالق الأكوان أبدع ما خلق، وأتقن ما صنع، مُقلّب الدهور والأزمان، ومُصرِّف الشهور والأيام، أحمده حمداً باقياً على مر السنين والأعوام، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليماً كثيراً.
هذا هلال العام الجديد عام 1441 للهجرة النبوية الشريفة. هذا هو الهلال الذي يذكّرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيّاً في مكة المكرمة، فأشرق بالهجرة في المدينة المنوّرة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخاً للإنسانية جديداً.
وعصر العِزَّة الذي تجلّى من خلال هذه الهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار وأرضاهم. وإنّ درس العزّة تحتاجه الأمة في أحلك أيامها، ومظاهر تسلط أعدائها، وصور الذلة والخنوع في كثيرٍ من جنباتها.
إنّ درس العزّة والثقة يتجلّى في ثقة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بربه، ويقينه بحفظه ونصره، والأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق لـ»لا إله إلا الله»، الأمل في الفرج بعد الشدّة، والعزّة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
إنّه لمّا اشتد أذى الكفّار برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، أَذِنَ الله له بالهجرة إلى المدينة النبوية المنوّرة، فخرج عليه الصلاة والسلام من بيته يتحدّى أعداءه، ويفوّت الفرصة عليهم في تدبيرهم ومكرهم، وليس مكر الله إلا تمزيق مكر الماكرين، وحاشا لله أنْ يمكر، وحاشا لله أن يُمْكَر به أيضاً، فإذا أسند الله عزَّ وجل إلى ذاته العلية المكر، فإنّما معنى ذلك أنّ الله خير مَنْ يمزّق مكر الماكرين.
ومرّة أخرى يُصنّع الأمل في قلب المحنة، وتتغشّى القلوب سكينة من الله، وهي في أتون القلق والتوجّس والخوف. يصل المُطارِدون إلى باب الغار، ويسمع النبي والصدّيق وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله، لو أنّ بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا، فيجيبه المصطفى صلى الله عليه وسلّم بجواب الواثق بنصر الله، المطمئن لوعد الله: «يا أبا بكر، ما ظنّك بإثنين الله ثالثهما؟!». إنّه درس عظيم في نصرة الله جل وعلا لأوليائه، وعدم تخلّيه عنهم لاسيما في الشدائد!
وكان ما كان، ورجع المُشرِكون بعد أنْ لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات، فانظر مرّة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل، وكيف تتغشّى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين، }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ{ [الحج:38]. يدافع عن عباده الذين توكّلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفُجّار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم،
حيث أبطل الله مكر المشركين وكيدهم عن رسوله، فقد كان في تقديرهم القضاء على الإسلام بمكة، وظنّهم القدرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنّ الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، وذروة إيثار الحق على الباطل، فالهجرة النبوية لم تكن هروباً من معركة، أو فِراراً من مواجهة، بل كانت تجسيداً للجهاد، وترسيخاً لقواعد الإيمان.
ما كانت الهجرة طلباً للراحة والاستجمام، ولا حرصا على الحياة، بل كانت استجابة لأمرٍ ربّاني لاستئناف الحياة الإسلامية.
هاجر الحبيب المصطفى إلى المدينة، فأصبحت الهجرة فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بها أعزّةً بعد الذلّة، وأقوياء بعد الضعف، حتى أعلا الله كلمته ونصر عبده وجنده.
ليكن العدو مَنْ يكون وما يكون، في شدّته وبطشه وقوّة سلاحه وكثرة جنده، فالله أقوى، والمسلم بربّه أعز، ولن يُغْلَب صفٌ يكون رب العزّة معه بالنصر والتأييد.
في ذكرى الهجرة النبوية المباركة: يجب أنْ نؤكد أنّ المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقف إسلامي مؤبّد، وأمانة الله إليكم أيها المسلمون في كل مكان، وأيها العرب من المحيط إلى الخليج، وهو وديعة الله عندكم، فحمايته والذود عن حياضه، والجهاد في سبيل تحريره، فرض يرقى إلى فرض العين على جميع المسلمين.
كيف لا يكون الجهاد فرضاً في سبيل تحريره، والصهاينة كل يوم يضعون خرائط ومكائد جديدة لتحقيق مكرهم، وتحقيق حلمهم بتهجير أهل القدس والقاطنين في أكناف الأقصى، ومنذ أيام مرّت بنا الذكرى الخمسون للجريمة النكراء، التي اقترفها الإرهابي الصهيوني دينيس مايكل، ففي يوم الخميس 8 جمادى الثانية 1389هـ، الموافق له 21 آب 1969م، أحرقت إسرائيل المسجد الأقصى، ومنبر صلاح الدين الأيوبي.
حريق المسجد الأقصى مثّل محطة من محطات الإرهاب الإسرائيلي، وحلقة من حلقات مسلسل الممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية، التي مارسها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم ودُرّة عباداتهم الإسلامية والمسيحية، تحت سمع وبصر العالم أجمع. هذه الجريمة من أبشع الاعتداءات بحق المسجد القدسي الشريف، كما كانت خطوة صهيونية فعليه في طريق بناء هيكلهم المزعوم مكان المسجد الأقصى.
انظروا إلى ما تفعله أيديهم في القدس، وفي الأقصى، وأكناف الأقصى، وفي كنيسة القيامة كل يوم، كيف تنتهك قطعان المستوطنين الإرهابيين المقدّسات والحُرُمات، ألا ترون أنّ إسرائيل تدمّر الحجر والشجر، وتهلك الحرث والنسل. انظروا إلى الأقصى، وسعي إسرائيل الدائم والمتواصل لتقسيم المسجد الأقصى المبارك، زمانياً ومكانياً، والسيطرة عليه بل وتدميره - لا سمح الله - وتفريغه من المؤمنين المُرابطين فيه، بشتى الوسائل الإرهابية، والطرق التهجيرية، ومنعهم من إقامة الجُمع والجماعة. انظروا إلى القدس الشريف مهبط الشرائع ومهد الرسالات السماوية، ساحاتها حزينة، ومآذنها سجينة، وإلى كنيسة القيامة مهد السيد المسيح عليه السلام كيف تُنتهك حُرُماتها.
إذن الأقصى في خطر ما دام في ظل الاحتلال منذ عام 1967، وما تلاه من محاولة حرق المسجد الأقصى، ثم حفر الأنفاق، وانتهاء ببناء الكنيس أسفل المسجد حتى وصل الأمر إلى هدم بوّابة المغاربة، وتدمير غرفتين أسفل المسجد، تمهيداً لتحويله إلى كنيس.
أمام هذا الواقع المُحزِن والمرير، ليس مُستبعداً أو غريباً وغير متوقّع، أنْ يأتي يوم نسمع فيه أنّ أحد المجانين اليهود قد نُسِفَ المسجد الأقصى لا سمح الله تعالى.
ومع ذلك كله نحن موقنون بأنّ يوم خلاصه آتٍ لا محالة، فتحرير المسجد الأقصى وعودته للمسلمين خالصاً وعدٌ في كتاب ربنا لن يتخلّف، حيث يقول الله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً»، فعودة الأقصى للمسلمين قضية محسومة لا يخفى علينا إلا وقتها، ولعله قريب إن شاء الله.
وحتى يأتي هذا الموعد الذي لن يتخلّف لأنّه وعد إلهي غير مكذوب، على المسلمين ألا ينسوا أو يحاول أحد أنْ يُنسيهم، أو يلفت أنظارهم بعيداً عن تلك القضية الأهم بالنسبة إلى جميع المسلمين حول العالم، فالمسجد الأقصى هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ونهاية مسرى خاتم الأنبياء، وبداية معراجه إلى السموات العلى،
الهجرة النبوية حدث غيّر مجرى التاريخ، وحمل في طيّاته معاني الشجاعة والتضحية والإباء والصبر والنصر والفداء والتوكّل والقوّة والإخاء والاعتزاز بالله وحده، مهما بلغ كيد الأعداء.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيّامنا يوم نلقاك، واغفر لنا يا ربّنا كل الذنوب والخطايا والسيئات يا أرحم الراحمين.
مفتي صيدا وأقضيتها.