بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 نيسان 2020 12:00ص تحويل القبلة

المفتي شوقي علام المفتي شوقي علام
حجم الخط
بقلم الشيخ د. شوقي علام*

من الفضائل التي تضاف إلى شهر شعبان تحويل القبلة، وهو حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث كان تحويل القبلة في البدء من الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية وهي العمل على تقوية إيمان المؤمنين وتنقية النفوس من شوائب الجاهلية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، فقد كان العرب قبل الإسلام يعظِّمون البيت الحرام ويمجّدونه، ولأن هدف الإسلام هو تعبيد الناس للّه وتنقية القلوب وتجريدها من التعلّق بغير الله، وحثّها على اتباع المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة؛ لذا فقد اختار لهم التوجّه قِبَل المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم ويطهّر قلوبهم مما علق بها من الجاهلية، ليظهر من يتبع الرسول اتباعاً صادقاً عن اقتناع وتسليم، ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية ورواسبها.

وبعد أن استتبّ الأمر لدولة الإسلام في المدينة، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام، ليس تقليلاً من شأن المسجد الأقصى ولا تنزيلاً من شأنه، ولكنه ربطٌ لقلوب المسلمين بحقيقة أخرى، هي حقيقة الإسلام، حيث رفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل قواعد هذا البيت العتيق ليكون خالصاً للّه، وليكون قبلة للإسلام والمسلمين، وليؤكد أن دين الأنبياء جميعاً هو الإسلام: {ملَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}.

وليس تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام إلا تأكيداً للرابطة الوثيقة بين المسجدين، فإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قد قطع فيها مسافة زمانية قَصُرَ الزمنُ أو طال، فقد كان تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام رحلة تعبّدية الغرض منها التوجّه إلى الله تعالى دون قطع مسافات، إذ لا مسافة بين الخالق والمخلوق: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}.

وعندما يتجه الإنسان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فهو بذلك يعود إلى أصل القبلة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِين}، فهي دائرة بدأت بآدم مروراً بإبراهيم حتى عيسى عليهم السلام، ولكنها لم تتم أو تكتمل إلا بالرسول الخاتم  صلى الله عليه وسلم فقد أخَّره الله ليقدِّمه؛ فهو وإن تأخّر في الزمان فقد تحقق على يديه الكمال.

تكريم من الله

وقد كرَّم الله نبيه  صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بأن طَيَّب خاطره بتحويل القبلة والاستجابة لرغبة رسول الله،  صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وما الأمر في هذا كله إلا أنه انتقال من الحسن إلى الأحسن، وهذا شأن رسول الله  صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها.

ولقد جاء تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أيضاً لتَقَرَّ عينُ الرسول  صلى الله عليه وسلم فقلبه معلّق بمكة، ويمتلئ شوقاً وحنيناً إليها؛ إذ هي أحبّ البلاد إليه، وقد أخرجه قومه واضطروه إلى الهجرة إلى يثرب التي شرّفت بمقامه الشريف، فخرج من بين ظهرانيهم ووقف على مشارف مكة المكرمة قائلاً: «والله إنك لخير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجتُ»، وبعد أن استقرّ  صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ظل متعلقاً بمكة المكرمة، فأرضاه الله عزّ وجلّ بأن جعل القبلة إلى البيت الحرام، فكانت الإقامة بالمدينة والتوجه إلى مكة في كل صلاة، ليرتبط عميق الإيمان بحب الأوطان.

فقد ذكر البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب، أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار، وأنه «صلَّى قِبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يُعجِبه أن تكون قبلته قِبل البيت»، أي البيت الحرام؛ فقد كانت رغبته  صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة تشغل عقله وتفكيره، ولم يصرّح بذلك إلى أن استجاب الله تعالى له وحقق له ما تمنّى لتظهر مكانته  صلى الله عليه وسلم عند ربه سبحانه وتعالى. 

* مفتي مصر