15 تموز 2020 12:01ص جَبْرُ الخواطر عبادة

حجم الخط
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ- رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).

إن ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى فعل الخيرات، والسعي على مصالح الناس والعمل على قضاء حوائجهم وَجَبْرِ خواطرهم؛ لِمَا لذلك من دور عظيم في تعزيز أواصر المودّة والمحبة بين المسلمين، وأبواب الخير في هذا المجال كثيرة، ومن المعلوم أنّ جَبْرَ الخواطر وتطييب النفوس خُلُقٌ كريم وصفة من صفات المؤمنين، وهو عبادة جليلة أمرَ بها ديننا الإسلامي الحنيف، وتَخَلَّق بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث يَجْبرُ المسلم فيه نفوساً كُسِرت، وقلوباً فُطِرَتْ، وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها!، ورحم الله الإمام سفيان الثوري حيث قال: (ما رأيتُ عبادة يتقرَّب بها العبدُ إلى ربه مثل جَبْرِ خاطرِ أخيه المسلم).

رسولنا  صلى الله عليه وسلم أعظم مَنْ جَبَرَ الخواطر

إن ديننا الإسلامي يحثُّ على وجوب التحلِّي بالأخلاق الإسلامية والإنسانية الرحيمة التي تشارك الآخرين آلامهم، ومن هذه الأخلاق الكريمة جَبْر خواطر الناس والإحساس بمشاعرهم وآلامهم، فتلك الصفة العظيمة يحرص عليها الأصفياء الأنقياء أصحاب الأرواح الطيبة التي تَشْعُر بآلام مَنْ حولها فَتُخَفّفها بِجَبْرِ خواطرهم.

عند دراستنا للسنّة النبوية الشريفة نجد أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان قدوة حسنة ومثلاً يُحتذى به في جَبْرِ الخواطر، وهناك العديد من المواقف التي تُظْهر حرصه – صلى الله عليه وسلم – على جَبْرِ الخواطر لكل مَنْ تعامل معه - عليه الصلاة والسلام -، فقد كان الكلّ يأوي إليه ويسعى لديه ويستجيرُ به، كما جاء في الحديث الشريف: عندما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غار حراء بعد نزول الوحي عليه (... يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ - وأَخْبَرَها الخَبَرَ -: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ).

جَبْر خواطر المُعْسرين

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ – تَعَالَى - أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْراً قَطُّ؟ قَالَ: لا، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لِي غُلامٌ، وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى، قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ).

يتبيَّن لنا من خلال الحديث السابق فضل جبر خواطر المُعْسرين، وذلك من خلال المسامحة والتجاوز عن المدينين، وجزاء المعاملة الحسنة مع الناس، كما نتعرَّف على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده المُحسنين الذين يجبرون الخواطر، حيث تجاوز سبحانه وتعالى عن هذا الرجل بما جَبَرَ به خواطر عباده المُعْسرين، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فمن كان متسامحاً مع الآخرين رحيماً بهم جابراً خواطرهم يُقَدّر ظروفهم المعيشية، كان الله سبحانه وتعالى رحيماً به متجاوزاً عنه يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فالجزاء من جنس العمل.

جَبْرُ خواطر المكروبين والمحتاجين

إن لِجَبْرِ الخواطر أجراً عظيماً وثواباً كبيراً أعدّه الله سبحانه وتعالى لمن رسم البسمة على شفاه المحرومين، وأدخل السعادة والسرور على قلوب الفقراء والمحتاجين، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِناً عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِناً عَلَى ظَمَـأ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِناً عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ)، ولا يختص ذلك الأجر الكبير بالأمور الثلاثة المذكورة في الحديث فقط، لأن مساعدة المسلم لأخيه المسلم ليست مقصورة على إطعامه أو سقيه الماء أو كسوته، بل تكون في جميع شؤون حياته.

وجاء في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْناً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعاً، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْراً، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ).

من المعلوم أن ديننا لإسلامي الحنيف جعل من أحبّ الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى جَبْر خواطر الناس، وذلك بإدخال السرور عليهم، وأحب الناس إلى الله سبحانه وتعالى هو أنفعهم للناس، حيث إنه يساعد الناس، فلا يأتيه مريض أو فقير أو محتاج إلاّ جَبَرَ خاطره وأعانه، فهو يجبر خواطرهم بقضاء حوائجهم وتفريج كُرباتهم وإغاثة الملهوفين منهم، وفعل المعروف وعمل الخير معهم، فهذه صفات كريمة ينبغي على المسلم أن يتحلَّى بها.

إنّ جَبْرَ خواطر الناس لا يحتاج إلى كثيرِ جُهْدٍ ولا إلى كثيرِ مال، فربما يكفي البعض كلمة: من ذكر، أو دعاء، وربما يحتاج الآخر لمساعدة مالية، وقد ينتظر الآخر قضاء حاجة، وقد يكتفي البعض الآخر بابتسامة أو كلمة طيبة، وهذا هو المجتمع الإسلامي مجتمع الحبّ والتعاون والتراحم وَجَبْر الخواطر، فأين نحن اليوم من هذه العبادة وهذا الخُلُق الإسلامي العظيم؟!



الشيخ د. يوسف جمعة سلامة

خطيب المسجد الأقصى