بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 آب 2023 12:00ص حول العلاقة مع القرآن الكريم

حجم الخط
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}، ويقول عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم  مبيّناً وظيفة ودور القرآن الكريم في حياة الإنسان المسلم: (تركتُ فيكم أيُّها الناس، ما إنِ اعتصمتم به، فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه)، ومن يتدبر هذه النصوص وغيرها الكثير يدرك تمام الإدراك أن كتاب الله تعالى ليس كتاباً يُقرأ بالألسنة أو يحفظ في الذاكرة وانتهى الأمر، بل هو منهج رباني مبارك أنزله المولى تعالى على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم  ليعمل به الإنسان المسلم في كل أمور حياته، الخاصة والعامة ليكون حقاً ويقيناً ممن تنطبق عليه الآية المباركة: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.
ولعل من أول أسباب التراجع العام والشامل الذي أصيب به المسلمون في عصرنا الحالي أنهم حرّفوا طبيعة الفهم لأدوار كتاب الله تعالى في حياتهم، فجعلوه كتاباً للقراءة، أو للتلاوة، أو لتزيين البيوت بلوحات تضم بعض آياته..؟!
ولكن الحقيقة أن كل ما سبق غير صحيح...
فكتاب الله ليس للزينة ولا (للديكور المنزلي)؟!..
وكتاب الله ليس كتاباً (نحبسه..؟!) في درج السيارة ليبعد عنها الحوادث والحسد..؟!
وكتاب الله ليس (حجاباً) نضعه تحت الوسادة لطرد الكوابيس أثناء النوم..؟!
وكتاب الله ليس كلمات مجرّدة نتمتم بها سراً فوق رؤوس بناتنا ليحظين (بعريس غني)..؟!
 بل هو كما ورد في حديث سيدنا علي (أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبّار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا أصحهما على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم).

الهجر العملي والفكري

والناظر بعين التمحيص إلى واقعنا المؤسف يدرك دون أي جهد أن الكثير والكثير من المسلمين قد فصلوا العمل بالقرآن الكريم عن حركة الحياة اليومية بكل مجالاتها، وحصروا العلاقة معه داخل المساجد، أو في بعض المناسبات الدينية والاجتماعية..؟!
ولهذا أصبحوا غرباء عنه، في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم وفكرهم وممارساتهم الاجتماعية، بل أصبح البعض منهم مناقضاً بكل أموره لهدي كتاب الله، ومع ذلك يدّعي زوراً أنه يطبق كتاب الله، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا ًأُولَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}.
والأنكى أنه مع مرور الزمن، ربّى هؤلاء أبناءهم على هذه الغربة، وأسّسوا أعمالهم عليها، وأنشأوا العلاقات الاجتماعية تحت ظلالها، فكانت النتيجة كما نرى اليوم، علاقة سطحية جوفاء بين الكثير من المسلمين وبين كتاب الله تعالى، ولذلك نحن بحاجة كبيرة وماسّة إلى إجراء عملية تصحيح كامل وشامل لمفهوم العلاقة مع كتاب الله.

قولية العلاقة

ومن أبرز السلبيات التي علينا التخلّص منها دون أي تأخير مسألة قولية العلاقة.
فعلى مدى سنوات وسنوات اقتصرت علاقة المسلمين في لبنان بالقرآن الكريم على اللسان.. وفقط على اللسان، فهم لا يبالون إلّا بـ(قراءة) القرآن، فنشأت بينهم أجيال لا تعرف من القرآن إلا القراءة، ولا تعرف عن حضارته إلّا النصوص اللسانية، أما التدبّر والتفقّه والتفكّر والسعي لاستخراج الدّرر التي يحتويها ثم العمل بها، فبكل أسف هذا أمر مفقود..؟!
ولعل هذه الآفة انتشرت بسبب انتشار «الفهم الأعوج» لبعض الآيات وبعض الأحاديث النبوية الذي تم التركيز عليه خلال عقود كثيرة مضت.
ففي القرآن الكريم نجد مثلا قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابً مَّسْتُوراً}، وغالبية من تحدث أو فسر هذه الآية قام بأخذها على الظاهر، فاعتبر أن (قرأت) هنا بمعنى تمرير الآيات على اللسان، ومن ثَّم فإن الناس قد أخذت بكلامهم دون تردد فحصروا العلاقة بالقراءة فقط..؟!
ومثلها، ما ورد في سنّة النبي صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ (ألـم) حرفٌ ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ). 
نعم .. القراءة مطلوبة، ولصاحبها الأجر الكبير والثواب العظيم بإذن الله، ولكن ليس لذاتها كقراءة مجرّدة، بل لأنها الباب الذي من خلاله تدخل الآيات والأحاديث إلى العقول فتتفاعل معه لتنشر نورها المبارك، فيلامس القلوب، ويصوِّب الأخطاء الحياتية، وينعكس حضارةً وخلقاً وصلاحاً على عمل الجوارح كلها.
فالقراءة ليست فقط عملية لسانية، وإنما هي من أبرز الوسائل التي يصل الإنسان من خلالها إلى اكتساب المفاهيم الصحيحة والقِيَم الراقية والعلم والمهارات، وإلى معرفة الاخلاق، وإلى تمييز النافع من الضارّ، وإلى تفريق الخير عن الشر، وغيرها الكثير من المحاسن بهدف إصلاح الفكر والحياة.
وهذه العملية العقلية المعرفية التي تُعرف بمصطلح (القراءة)، لا يمكن أن تحقّق الأهداف التي تحدثنا عنها إلّا إذا قام صاحبها وهو الإنسان المسلم، بما يشبه عملية التشريح لكل كلمة، حتى يصل إلى المعاني الكامنة بداخلها، ثم يبدأ بالكلمة التي بعدها حتى يشكّل في نهاية الأمر سلسلة متكاملة ومتناسقة من المعاني التي تترسخ في عقله وتترجم في أخلاقه.
وهنا أذكر أني دعوت ذات مرة، إلى اعتماد «النظام المخابراتي» في العلاقة مع القرآن الكريم، فكما أن أجهزة المخابرات في بلاد العالم كله لا تترك عند التحقيق في قضية ما أي أمر - كبيراً أم صغيراً وقريباً أم بعيداً ومباشراً أم غير مباشر - إلّا وتدقّق فيه وفي دلالاته وأبعاده، كذلك على المسلم الفطن أن لا يترك حرفا من القرآن إلّا ويتدبر أبعاده ودلالاته في سبيل تحقيق حسن التفاعل مع كتاب الله تعالى، وهذا «النظام المخابراتي» يفتح للمسلم آفاقاً جديدة في فهم كتاب الله، ويتيح له الوصول إلى معانٍ لم تكن عنده من قبل، وإلى فهم لم يكن في عقله قبل ذلك.
إذن... المشلكة الأولى هي التشوّه الحاصل في مفهوم قراءة القرآن، حيث جعلنا الوسيلة غاية، ثم هجرنا الغاية هجراً كاملاً، وبدلاً من أن تكون القراءة وسيلة نحقق من خلالها فهم مراد القرآن منا، أصبحت هي عينها الغاية المطلوبة..؟!
فصرنا نتفاخر بأن (فلان) يقرأ كل يوم مائة صفحة، وأن (علان) يختم القرآن كل أسبوع مرتين، وأن (الثالث) يقرأ كل ليلة عشرة أجزاء..
طبعا لا ننكر عليهم، وندعو لهم، وتقبّل الله منهم وأثابهم خير الثواب، ولكن أين أثر هذه القراءة على فكر الفرد المسلم، وعلى سلوكياته، وعلى أسرته، وعلى عمله، وعلى أخلاقه، بل وعلى حركة المجتمع كله من حوله..؟!
ثم كيف يتناسب هذا العمل مع قوله تعالى: {قدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه}.
وأين عملية الخروج من ظلمات الواقع (الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوظيفية والفكرية والتعليمية وإلخ...) التي يعاني منها المجتمع بأسره..!؟
ثم هل يتوافق ادّعاؤنا هذا مع استقرار الجرائم والتفلتات و«الشطحات» الإلحادية ومظاهر الحاجة والفقر والانحلال الفكري والأخلاقي التي عمّت في المجتمع؟
وهل يتوافق هذا مع قوم مسلمين، يتلون ليل نهار بلسانهم قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؟!
وهل يمكن أن نقول أن لدينا مفهوماً صحيحاً لمعنى (قراءة القرآن) في مجتمع العداء مستفحل بين أفراده، والبغضاء منتشرة بين أتباعه، وللأسف تحت ستار ديني، بينما القرآن - الذي كلنا نقرأه..!؟ - يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؟!

إصلاح فوري

إنها مشهدية «كوميدية - سوداء» تصرخ في وجوهنا لتقول أننا في كارثة إيمانية وفكرية كبيرة من حيث طبيعة علاقة جيل بأكمله مع القرآن الكريم.
والخطوة الأولى للخلاص من هذه الآفة، هي القيام بإصلاح فوري لمفهوم قراءة القرآن عند الناس جميعاً، ونزع المفهوم الفاسد من أن (القراءة) تعني فقط .. تمرير اللسان على الآيات.
ثانيا، أن نبدأ فكراً وارتباطاً وتدبّراً وسلوكاً وتعليماً بقراءة جديدة لآيات القرآن الكريم ولفهم مراده وفق ما في عصرنا من معطيات، ولا يعني ذلك الإساءة للماضي، ولا للسلف الصالح الذي قدّم لنا إرثاً نفتخر به بحسب قدراته ومعطيات عصره، كما لا يعني أيضاً أن نترك كلّ التراث أو نتنكّر له ونشكّك فيه، ولكن المقصود الوحيد هنا بقولنا (قراءة جديدة للقرآن الكريم)، هو السعي العلمي الجاد لتحقيق التفاعل الصحيح مع كتاب الله، والذي يستفيد من معطيات العصر وكل ما فيه من تطور بكل المجالات، انطلاقاً ممّا وصل إليه السلف الصالح في تراثهم واجتهادهم.
بمعنى آخر، علينا أن نجتهد في الفهم وفي التدبّر وفي العمل بآيات القرآن الكريم، بحيث يكون عمل السلف الصالح أرضاً نبني عليها تفاعلَنا نحن مع القرآن الكريم... والله المستعان.

bahaasalam@yahoo.com