بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 أيلول 2023 12:00ص دار الفتوى في نشأتها

حجم الخط
رغم المقولة الرائجة عند المسلمين السنّة بأنه لا رهبانية في الإسلام بمعنى أنه لا وجود لما يسمّى بطبقة «رجال الدين»، فإن البحث عن مرجعية دينية لم يكن غائباً عن اهتمام الدولة الإسلامية ابتداء من العصر العباسي. لإن تطوّرت فيما بعد هذه المحاولات وترجمت على أرض الواقع بإنشاء مرجعية دينية مركزية، فذلك بفضل الجهود التي بذلها السلاطين العثمانيين في الفترات الأولى لحكمهم والتي تعود الى عدة اساب منها ما أشار إليه المستشرق Gaudefroy Demombunes من كون هذه المرجعية تشبه الى حد كبير مهام الخليفة في أواخر العصر العباسي، وهو أمر مستبعد باعتبار ان الخليفة في ذلك العصر المتأخّر لم يكن يمارس صلاحيات حقيقية ولا حتى دينية ولم يكن له دراية بالفتاوى ولا بشؤون المساجد والخطب والصلوات والأعياد. ومنها ما يعود الى فكرة اقتباسها من نظام قاضي القضاة الذي عرف في عهد الخليفة هارون الرشيد (808- 786م)، فقد استبدله السلطان عثمان بنظام ديني وقضائي مركزي، أو بأن وجود مثل هذه المرجعية الدينية الموحّدة لدى المسلمين ناتج عن تأثرها بالتنظيم الديني الكاثوليكي الذي يدور حول وجود سلطة بابوية مركزية في الكنيسة. ويبقى المرجح من ضمن هذه الأسباب - دون استبعاد الطرحين الأخيرين - ما كان في نيّة السلطان مراد الثاني من تنظيم الشؤون الدينية على شاكلة تنظيم الطرق الصوفية الهرمية.
الخيوط الأولى التي برزت فيها الشخصية المؤهلة للتربع على قمة المرجعية الدينية داخل الدولة كانت مرجعية قضائية تشير ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري الى منصب «قاضي القضاة». إلّا أن مرجعيتة الدينية القضائية لم تدم طويلاً إذ ما لبث أن أعطيت صلاحياته وامتيازاته الى «قاضي العسكر»، وخاصة في الأندلس، وفي مصر ابتداء من العصر الأيوبي، حيث حظي بأهمية بالغة تفوّق بها على أقرانه في القضاء العادي فسمّي عضواً في ديوان المظالم، واستقل بديوان خاص منفصل عن باقي القضاة. إضافة الى أنه كان يصاحب السلطان في تنقلاته وحروبه.
ابتداء من العهد العثماني حظي «قاضي العسكر» بأعلى منصب ديني في السلطنة. نظراً لتوسّع المهام الملقاة على قاضي العسكر، أنشأ السلطان فيما بعد مركزين منفصلين لقضاء العسكر أحدهما في الأناضول والآخر في بلاد الروم، وألحق لكل واحد منهما عدد معين من الإدارات التي تضم الموظفين الدينيين والإداريين ومنها: إدارات الأجهزة التعليمية (شؤون التدريس والمدرسين)، وجهاز القضاء العثماني (المحاكم المدنية والجنائية والعسكرية والشرعية)، إدارات مختصة بتلبية حاجات القضاء والأفراد والجيش في أوقات السلم والحرب، وحل خلافاتهم والنظر في دعاواهم، ديوان لإصدار الفتاوى السياسية والإدارية للدولة العثمانية.
بقيت صلاحيات قاضيا عسكر على رأس المؤسسة العلمية الى أن أنشأ منصب شيخ الإسلام وعيّن فيه مفتي إسطنبول ليكون المفتي العام للسلطنة طوال الفترة العثمانية، وجعل مقره في إسطنبول بما كان يعرف بـ «فتوى خانه» الذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 1555م بطلب من السلطان سليمان القانوني، بعد تعرض المبنى للزلازل، وللحرائق المتكررة تم ترميم البناء وتسليمه إلى المشيخة الإسلامية سنة 1826م، وصدر فرمان عثماني بذلك عن السلطان محمود الثاني سنة 1827م، وبقي البناء مقراً رسمياً لفتوى خانة حتى سنة 1924م.
في بدايات الحكم العثماني قُسّمت مؤسسات الدولة الى ثلاثة أقسام رئيسية: المؤسسة الحربية (أهل السيف) والمؤسسات العامة الإدارية (أهل القلم) والمؤسسة العلمية الدينية (أهل العلم). هذه الأخيرة كانت تشمل القضاء والتعليم. في عهد السلطان مراد الأول (1360-1389) حظيت المؤسسة العلمية باهتمام خاص من قبل السلطان، فجعل على رأسها قاضي العسكر ومنحه صلاحيات مطلقة للإشراف على كافة القضاة، وأوعز إليه بتطوير المؤسسة العلمية وتوسيعها لتشمل كافة العلماء الدينيين والمدرّسين وجعل إسطنبول مقرّاً مركزياً لها. في هذه الفترة نظم التعليم الديني وفق إثنتا عشر رتبة علمية ابتداء من «الخارج ابتدائي» وصولاً الى السليمانية ودار الحديث السليمانية. كل رتبة علمية تؤهل للترشح للوظائف الدينية من واعظ وإمام وخطيب وكاتب قضائي ومدرّس وقاضي ومفتي. فقط الذين بلغوا مرتبة السليمانية ودار الحديث السليمانية كان بإمكانهم الترشح لوظائف الإفتاء والقضاء في العاصمة والمدن المهمة. الترفّع من وظيفة الى وظيفة أعلى كان يتم بعد تقديم «عالم الدين» لأبحاث دورية تؤهّله للترقّي في الوظائف الأكثر أهمية. بناء على هذا التطور في التعليم الديني، وضعت هرمية للمناصب الدينية القضائية و«الإفتائية» والتعليمية. تربع على قمة الهرم شيخ الإسلام مفتي العاصمة بعد أن تقدم منصبة على «قاضي العسكر»، وتلاه في المناصب القضائية قاضيا العسكر في الأناضول وبلاد الروم، وقضاة العاصمة والمدن المهمة الى القضاة في الأماكن النائية، وكذلك أنشئت هرمية في مناصب الإفتاء وأهمها مفتي إسطنبول (شيخ الإسلام) والمدن الكبيرة في تركيا وأوروبا والدول العربية والافريقية الخاضعة للحكم العثماني. وكذلك نظمت المناصب الدينية التابعة للسلطان مثل خطباء وأئمة المساجد السلطانية، والمدرسين الذي توكل اليهم مهمة تدريس أبناء السلاطين، وأضيف إليهم فيما بعد نقيب الأشراف. كما طال هذا التنظيم الهرمي المناصب التعليمية وفق أهمية الأماكن التي كان يعيّن فيها المدرّسون سواء في العاصمة أو المدن الشريفة مثل مكة والمدينة والقدس أو المدن العمرانية الكبيرة أو القرى والأماكن النائية.
هذه الهرمية في المناصب الدينية جعلت من المنصب الذي مارسه القاضي من أهم المناصب الدينية التي تسمو على مناصب الإفتاء إلّا في العاصمة حيث تصدّر منصب الإفتاء القمة الهرمية لكافة المناصب الدينية. وأما الأئمة والخطباء فكانوا يختارون من القضاة والمفتين والمدرّسين والمساعدين القضائيين أو من الذين لم يكملوا دراستهم الدينية. الوظائف الدينية الأخرى مثل رئيس المؤذنين في العاصمة والفلكيين الذين يحددون موعد الصلوات والمؤذنين والعاملين في المساجد كانت لهم هرمية أخرى خارج المؤسسة العلمية.
اعتبر شيخ الإسلام ثالث شخصية في ترتيب هرمية أهل الحكم داخل الدولة : السلطان والصدر الأعظم وشيخ الإسلام. أول من أطلق هذه التسمية السلطان مراد الثاني حيث منحه للمفتي وقاضي العاصمة في بورصة الشيخ شمس الدين الفناري (1351-1431) وأضيف إليه لقب مفتي الأنام ومنحه الى خلفه المفتي فخر الدين العجمي (1437-1462). بعد فتح إسطنبول منح السلطان محمد الثاني المفتي الملا خسرو ودوّنه في قانون نامه لقب رئيس العلماء. ونظراً للدور المميّز والمكانة التي كان يتمتع بها شيخي الإسلام زمبلي علي جمالي أفندي (1501-1525) وأبو السعود أفندي (1574-1545) رفع السلطان سليمان القانوني من أهمية شيخ الإسلام وجعله المرجع الأعلى لكافة المفتين والقضاة والعلماء، لما يمكن مقابلته بمرجعية منصب الصدر الأعظم إزاء كافة الوزراء والموظفين الإداريين في السلطنة.
أهمية موقع شيخ الإسلام في الدولة كانت تظهر في البروتوكول الذي كان يحظى به فهو في حالتي الجلوس والسير في المناسبات الرسمية كان موقعه على شمال السلطان بينما كان موقع الصدر الأعظم على يمينه، كما كانا يواكبان السلطان في مراسم تنصيبه ومعايداته. إلّا أن السلطان أحاط شيخ الإسلام بعناية وتقدير أكثر نظراً لموقعه الديني فكان يحرص من وقت الى آخر على القيام بزيارات خاصة له، وهذا ما حدده البروتوكول أيضاً في استقبال السلطان لشيخ الإسلام في المناسبات حتى في عدد الخطوات التي كان يسير بها والسماح له بتحية السلطان باليد بينما كان الصدر الأعظم يلمس كم ثوبه. وفي الأعياد كان ينص البروتوكول على زيارة الصدر الأعظم لشيخ الإسلام بداية ثم يرد له شيخ الإسلام الزيارة، دون أن تكون له زيارات أخرى في باقي المناسبات ولا الى أحد من الوزراء وأهل الحكم تقديراً لمقامه الرفيع.
تعيين شيخ الإسلام كان يتم وفق إرادة السلطان وحده، وكان في بعض الأحيان يرضخ لتسميته أو عزله لإرادة العسكر أو بالتشاور مع الصدر الأعظم. وفي المقابل كانت تسمية الصدر الأعظم وكبار الموظفين في الدولة بما فيهم المفتين والقضاة وكبار المشايخ في كافة الدول التي تتبع السلطنة تتم عبر مشاورة السلطان لشيخ الإسلام. وفي علاقته مع الصدر الأعظم كانت تتجاذبها التدخلات لكل واحد منهما في شؤون الآخر، فتارة يتغلب شيخ الإسلام على الصدر الأعظم الى أن يتوصل الى عزله أو بالعكس. وفي حال تناغمهما واتفاقهما كان ذلك مدعاة لاستمرارهما لمدة أطول في منصبهما وفي استقرار البلاد.
نظراً لدور شيخ الإسلام في إصدار الفتاوى، كان إعلان الحروب والتصديق على المعاهدات الدولية والقضاء على الفتن الداخلية وإضفاء الشرعية على المشاريع الإصلاحية في أروقة الحكم وفي الإدارات العامة بل وعزل السلطان أو محاكمته لا تتم الا بعد اصدار فتاوى بالموافقة أو اعتبار هذه الإجراءات مخالفة للشريعة. لهذه الاعتبارات كان شيخ الإسلام عضواً أساسياً في المجلس الاستشاري للسلطان الذي كان يعقد في قصر الخلافة أو في السراي أو في فتوى خانة. كانت فتاوي شيخ الإسلام في بعض الأحيان كافية لعزل السلطان ومحاكمته.
كانت فتوى خانة تضم جهازاً إدارياً ضخماً من الموظفين والمستشارين ليستوعب كل مهام الإفتاء والقضاء والأوقاف والتعليم الديني والاعفاء من الخدمة العسكرية ونقابة الأشراف ومكتب سجلات الأحوال الشخصية، والتفتيش الصحي، والطرق الصوفية ودور الأيتام ولجان تحديد مواعيد الصلوات والأعياد واستطلاع بدايات ونهايات الأشهر القمرية ونسخ وطباعة الكتب الدينية والدوائر المالية والمحاسبية والتفتيش والرقابة والتأديب والشؤون التقاعدية وشؤون الموظفين وشؤون القلم والمراسلات.
بعد إقرار التنظيمات الجديدة (1839- 1876) اضمحل كثيراً دور وصلاحيات فتوى خانة وشيخ الإسلام، ففصلت عنها نظارة الأوقاف لتصبح وزارة مستقلة، كما فصل القضاء العدلي عن القضاء الشرعي سنة 1879، وكذلك التعليم الديني عن العلوم الأخرى وأنشات وزارة المعارف سنة 1857، وأصبح شيخ الإسلام عضواً في مجلس الوزراء تحت اسم وزير الشريعة وأصبحت مدة خدمته مرتبطة بعمر الحكومة إلى أن ألغي منصب شيخ الإسلام وانتقلت إدارات الفتوى خانة الى رئاسة الشؤون الدينية في 3 آذار 1924.
في فترة الإنتداب الفرنسي وبعد إلغاء مشيخة الإسلام انقطع الرابط القانوني الذي كان يجمعها مع الأجهزة الدينية في لبنان وسوريا، أراد الفرنسيون إيجاد مرجعية دينية من خلال منصب قاضي القضاة الى أن استقر الرأي بمنحه لمفتي بيروت بعد صدور المرسوم رقم 291 بناء على القرار رقم 56 و55 الصادرين بتاريخ 9 أيار سنة 1932 من المفوض السامي للجمهورية الفرنسية، الذي نص على اعتبار مفتي بيروت مفتياً للجمهورية اللبنانية. فكان الشيخ توفيق خالد أول مفتي رسمي مستقل وابتدأ منذ توليه منصب الإفتاء الى تنظيم الأمور الدينية والوقفية والى تأسيس أول مجلس شرعي وإنشاء الكلية الشرعية وتسميتها بأزهر لبنان لتخريج علماء الدين، وإيجاد مقر لدار الفتوى في منطقة عائشة بكار وهو المقر الحالي، الى أن خلفه على الإفتاء الشيخ محمد علايا الذي صدر في عهده أول نظام ديني للإفتاء بالمرسوم الإشتراعي رقم 18 لسنة 1955.
مقارنة سريعة لما آلت إليه الأمور حالياً في تضعضع دور دار الفتوى بعد أن عاشت عصورها الذهبية في فترتي الشيخين توفيق وحسن خالد، مع العصر الذي شهد نهضة تنظيمية وإصلاحية عارمة وشاملة في فتوى خانة العثمانية، نجد بأن التعليم الديني كان المحور الأساس لهذه النهضة، مما نتج عنه وضع علماء الدين في موقعهم الوظيفي والارشادي في المكان المناسب لمؤهلاتهم العلمية التي يشترط للترفع فيها إثبات قدراتهم العلمية عن طريق أبحاث ودراسات دورية. إلى جانب المراقبة والمحاسبة التي طالت كافة علماء الدين ولو كانوا في قمة الهرم الديني، فكانت العقوبات الرادعة تصل الى إقالة وعزل عدد من مشايخ الإسلام، أو نفيهم أو إعدامهم بفتاوى تصدر ممن يليهم في منصب المشيخة ويصدق عليه السلطان. أو خلال ثورات علماء الدين عليهم، مثل ثورتهم التي هزت أرجاء الدولة العثمانية في القرن السابع عشر ضد شيخ الإسلام فيض الله أفندي. 
وتبقى غصّة لدى المسلمين في العالم، وهي أنه قد طويت لديهم صفحة تأسيس مرجعية دينية موحّدة تجمع العالم الإسلامي. لو قدّر لها الإستمرار لكانت بمثابة «فاتيكان» إسلامي كفيلة بأن تقضي على حالة الفوضى والشرذمة وصدور فتاوى مبعثرة ومتناقضة، وتتولى شؤون التعليم الديني وتحرص على تنشئة علماء الدين داخل معاهد وجامعات راقية ومعترف بها، وتشرف على حسن سير المرافق الدينية والإعلامية.

* مدير عام دار الفتوى سابقاً