بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 حزيران 2020 12:00ص رسالة رئيس المركز الثقافي الإسلامي.. لمناسبة إنتهاء شهر رمضان المبارك

حجم الخط
ها نَحْنُ في سَنَتِنا هذِهِ قد ودّعنا شهر رَمَضان المُبارك {الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}؛ وهو الشَّهرُ الذي قال فيه ربُّ العالمين {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر}؛ إذْ، وَوِفاقاً لِما بيَّنَهُ لَنا (الرَّحمن الرَّحيم)، في مُحْكَمِ تَنْزيلِهِ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.

ويَطيبُ لي، أيُّها الأحبَّة، أنْ أشارِكَكُم الدُّعاءَ إلى مَنْ لَهُ «العِزَّة جَميعاً»، أنْ يتقبَّلَ مِنَّا صِيامنا، وما قُمنا بِهِ مِن عباداتٍ في هذا الشَّهْرِ، وما قدَّمنا فيهِ مِن طاعاتٍ، أو حتَّى مجرَّد أنَّنا نَوَيْناهُ مِن خَيْرٍ. ونَطْلُبُ مِن «غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ»، أنْ يَصفحَ عنَّا في ما عَجِزنا عَن إِتْمامِهِ أو قَصَّرنا في تَأدِيَتِهِ أو سَهَوْنا عَنه؛ وكَيْفَ لا، وهُوَ «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ» الذي أَخْبَرَنا في {كِتَاب لَا رَيْبَ فِيهِ}، فقال {إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

يُسعدُني، أيُّها الأخوات والأخوة، ونحنُ في بَلَدِنا هذا، على ما نحنُ فيهِ مِن قَلَقٍ وطنيٍّ عامٍّ، يشملُ أوضاعَنا الصُّحِيَّة والمالِيَّة والاقتصاديَّة، ناهيكَ بالأوضاعِ الاجتماعيَّةِ والثَّقافيَّةِ والتَّربويَّةِ كافَّة، كما تِلكَ السِّياسيَّةِ والأمنيَّةِ، أنْ أكونَ، وإيَّاكُم، مِنَ الذين يؤمِنونَ بِقَولِ «الْغَفُور الرَّحِيم»، {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}؛ وأنَّنا مِمَّن {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}؛ وأنْ أَسْألَ، معكم، «أَحْكَمَ الحاكِمينَ»، كما تعلَّمنا من كِتابِهِ المُبين {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

أيام اختبار

لَقَدْ كانَتِ الأيَّامُ المُنْصَرِمَةُ، أيَّامَ اختبارٍ كبيرٍ لكلِّ مِنَّا، في صَبْرِهِ وقدراتِهِ وعزمِهِ وتقديرِهِ؛ كما كانت، وقبلَ كلِّ شيءٍ، امتحاناً لنا جَميعاً، في نوايانا تجاهَ أنفسِنا وفي إلتزامنا بالأعمالِ، التي يتولاَّها كلُّ واحدٍ منا، والمهامِ المُلقاةِ على عاتِقِهِ. وكانَ التَّحدي الذي يُواجِهُنا، في «المركزِ الثَّقافيِّ الإسلاميِّ»، مِنَ التَّحدِّياتِ الصَّعبةِ؛ إذ ما كدنا نُقيمُ حفلَ افتتاحِ الموسمِ الثَّقافيِّ لهذه السَّنة، حتَّى كانت لنا المشاكلُ المترتِّبةُ عن قَطْعِ الطُّرقاتِ وعدمِ استِّتباب الأمنِ، في مرحلةِ ما حَصَلَ مِنْ تَجَمُّعاتٍ عامَّةٍ ومظاهراتِ احتجاجٍ سياسيّ صاخبةٍ؛ ثمَّ كانت «ثَالِثَةُ الأَثافي»، كَما يّقولونَ، في مَا حَصَلَ مِنْ تدابيرِ «الحَجْرِ الصُّحِيِّ»، جَرَّاءَ المَخاوِفِ مِن انتِشارِ وَباءِ «الكورونا».

كُلُّ ما أعْدَدْناهُ لـ «المَرْكَزِ» مِن مشاريع، وكلُّ ما خطَّطنا في سبيلِهِ مِن نَدواتٍ وَوُرَشِ عَمَلٍ ومؤتمراتٍ ومحاضراتِ ومنشوراتٍ، وجميعُ ما عيَّنَّاهُ مِن لِجانِ «تَثْقيفٍ اجتِماعيٍّ» و«تواصُلٍ وإعلامٍ»، تَجَمَّدَ وباتَ جَمْراً؛ يَحْرقُ أَعصابَنا وَيَسعى إلى افتراسٍ لئيمٍ لِوجودِنا. وما كانَ، أيُها الأَحِبَّةُ، بِاليَدِّ مِنْ حِيلةٍ، سوى التَّجلُّدِ على المُصابِ؛ إذْ هُوَ رِزْءٌ عَمَّ الوَطَنَ، إنْ لَمْ يَكُن ابتلاءً شملَ الكرةَ الأرضيَّةَ برمًّتها. وَلَمْ يتبادر إلى أَذهاننا، ونحنُ نغوصُ في بِحارِ التَّجلُّدِ المُعْتِمَةِ ونَمْشي على رِمالِ الصَّبرِ المُحْرِقَةِ، إلاَّ أنْ نَتلوا في «الكِتاب المُبينِ» {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}؛ وأنْ نقرأَ قَوْلَ {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ}؛ وأن نتمسَّكَ، تالِياً، بإيمانِنا بِهَديِ «الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.

لَمْ يكن بمقدور أحدٍ منَّا أنْ يوافق على تجميد العمل في «المركز»؛ وكان السُّؤالُ اُلْمُلِحُّ على كلٍّ مِنَّا، كيف العملُ، وجميعُ نشاطات «المركز» محصورة بالشَّأن الثَّقافيِّ، وهو شأنٌ لا يكونُ مِن دونِ اجتماعٍ للنَّاسِ وتواصلٍ مُشْتَرَكٍ فيما بيننا وبَيْنَهُم؛ وكَمْ كانَ منظرُ «قاعة المحاضرات» الفارغةِ، في مبنى «المركز» قاتلاً، وكم كان خلو «المكتبة العامَّة» فيه، من روادها، مزعجاً، وكم كان شغور «غُرف اللِّجان العاملة»، في رحابه، مِن أعضائها ساحقاً ماحِقاً.

كُنَّا قد أعددنا، برنامجاً حافلاً بالمحاضراتِ الثَّقافيَّة، وبدأنا الإعداد لـ «مؤتمر الفاعلِيَّةُ الثَّقافِيَّة لمفهومِ التَّسامُحِ في الفكر الإسلاميِ في البناء الوطنيِّ»، بالتَّعاون مع «دار الفَتوى» في الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة؛ وكذلك السَّعي في التَّحضير لورشة عمل في موضوع «الصَّحافة اللُّبنانيَّة في القرن العشرين وفاعليَّة الوجود الإسلامي فيها»، بالتَّعاونِ مع مركز الأبحاثِ في «جريدة اللِّواء»؛ ولم يكن قد بقي أمامنا سوى تنفيذ الاحتفال الثَّقافيِّ الوطنيِّ الكبيرِ بذكرى كبيرةٍ من رائدات «المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ»، الدكتورة زاهية قدُّورة، رَحِمَها اللهُ، بالتَّعاونِ مع رئاسةِ «جامعة بيروت العربيَّة»؛ وكنَّا، كذلك، في خِضَمِّ التَّحضيرِ لإصدارِ «الكتاب السَّنوي» لـ «المركز»، كما كُنَّا على وشكِ إطلاقِ برنامَجَي العمل للجنتي «ثقافةِ المجتمع» و«التَّواصلِ والإعلام»، وقد انضَمَّ إلى كلُّ واحدةٍ من هاتينِ اللَّجنَتَينِ كرامٌ مِنْ أهل الثَّقافة والفِكر والمُجتَمَع.

المنصَّة الإلكترونيَّة

كانَت الحالُ، أنَّ ما مِن أحدٍ قادرٍ على التَّواصلِ المباشِرِ مع الآخر؛ كُلُّ امْرِءٍ أقفلَ بابَ دارِهِ على نفسِهِ وعِيالِهِ، وانْزوى بِأفكارِهِ وقِراءاتِهِ وأعمالِهِ الخاصَّة. وما كان لنا، والحالُ كذلك، سوى أنْ نتفكَّر بالإفادة ممَّا بين أيدينا، أو في مكاتبنا مِن أمور؛ وكان المِحساب (الكومبيوتر) أحدها، كما كان الهاتف الخلوي (السّيِليولير)، أحدها الآخر؛ وكان أن استخْدَمْنا إمكانيَاتِ كُلٍّ منهما؛ فعملنا على تصْميمِ «مِنَصَّةٍ إِلِكْتْرُونِيَّةٍ»، تكونُ منبراً لـ «المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِ»، في ظروفِ هذهِ المِحنةِ، وكانَ أنْ أدهَشَنا ما حَصَلَ مِن ترحيبٍ وتشجيعٍ وإقبالٍ ومشاركةٍ؛ حتَّى صارت «المنصَّة الإلكترونيَّة» هذه، وكَأنَّها «قاعةُ محاضراتِ «المَرْكَز» ومقرَّ غُرَفِ لِجانِهِ العامِلَةِ، مُلْتَقى أنْظارِ كَثيرينَ، ومَحَطَّ أقلامٍ لِكبارِ المُفكِّرين، وساحةَ تبادلِ الآراء والتَّصوُّرات بينَ جَمْعٍ مِن أعضاءِ «المركزِ» ورُوَّادِهِ ومُحبّيِهِ وقادري وُجُودِهِ. والمُفرِحُ هَهُنا، أنَّ الذين أقبلوا على هذهِ «المنصَّةِ»، مُشاركينَ في أعمالِها وقرَّاءً لِمَنْشوراتِها، كانوا مِن كلِّ لبنان، مِنَ الدِّيانتين الإسلاميَّة والمسيحيَّة، ومِنَ المذاهبِ كافَّةٍ، ومِنَ التَّوجُّهاتِ الثَّقافيَّةِ المُتَعدِّدةِ، ومِنَ الآراءِ العِلْميَّةِ المُتَنَوِّعَةِ.

صَحيحٌ، أيُّها الأحبَّة، هوَ حالٌ مِنَ التَّوفيقِ الرَّبَّانيِّ، قد يستدعي قول مَنْ {أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إذ يذكر في ما هو {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، {وَالْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، {وإِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

شَهْرُ رمضان، شهر الخيرات؛ كان فيه ابتلاءُ ناسِ «المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ»، بإمكانيَّةَ تعطيل وجوده؛ رغم كلِّ ما جرى تهيَّئته لهُ من نشاطاتٍ وبرامج وندواتٍ ومؤتمراتٍ ومنشوراتٍ ووُرَش عملٍ؛ وكان الإيمانُ بالله دَيْدَنَ تفكيرنا، والثِّقة بربِّ العالمين مبعثَ صبرنا، ومحبَّتكم لـ «المركز»، ووفاؤكم لتاريخِهِ العريقِ، وتضامنكم معنا، وإيمانكم الرَّاسخ بفاعليَّةِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ في لبنان، مِنَ العواملِ التي دفعتنا إلى مواجهةِ الصِّعاب.

وها نَحْنُ، أيَّها الأعِزَّة، بإذنِ الله ورِعايَتِهِ ورُضاه، قد احتفلنا مَعَكُم جميعاً هذه السَّنة وكعادَتِنا، بِـ «عِيدِ الفِطْرِ» السَّعيدِ؛ فَكُلُّ عامٍ وأَنْتُم بِخَيْرٍ؛ وكُلُّ «رمضانِ»، وجميعُنا، بِرضى الرَّحمنِ وقُوَّةِ الإيمانِ وعَزْمِ العَمَلِ، نَفوزُ بِالخَيْرِ والنِّعمَةِ، ولا يَسَعني، ونَحنُ في هذهِ الأيَّام، إلاَّ أنْ أؤكِّد لَكم، أنَّكُم، وأَنْتُم في هذا وَحْدَكُم، بَعْدَ رَبِّ العالَمين، المَصدر الوحيد لتمويلِ نشاطاتِ «المركز» وتَيسيرِ أعمالِهِ، وعَسانا وإيَّاكُم، بِفَضْلِ اللهِ، سُبحانَهُ وتَعالى، ينبوع إيمانِنا، ومَصْدَر كرمِكُم، نقرأُ قَوْلَ مَن هُوَ {لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي