بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 حزيران 2019 06:05ص فساد الحُكَّام من النساء والأولاد

حجم الخط
طالما وصف الحكام والقضاة بالنزاهة والأمانة والتعفف عن أموال الناس، ونسب ما أصاب حكمهم من فساد الى البطانة أو الحاشية وأن هذه الحاشية كانت عبارة عن مستشارين مقرّبين وعن النساء والأولاد. وكلما كان التصرّف في الأموال العامة يتمّ بدون رقابة مسبقة أو لاحقة، وكلما افتقدت النظم الديوانية الى ضوابط ترعى صرف الأموال، كلما هانت على متولّي الأموال العامة سمعتهم وكرامتهم، فتسود الرشوة ويعمّ الفساد والبرطيل.

يقول المعمّرون أن السمعة قبل الصنعة وهذه السمعة لم تعد تعني شيئاً لدى الكثير ممن يتولّى وظيفة عامة ولا حاجة بنا للتحديد فيكاد المريب يقول خذوني وكل واحد تحت إبطه مسلة تنعره، على حد قول المثل الشعبي وللقارئ اللبيب أن يفهم من الإشارة، ولكن سنرجع قليلاً الى زمن مضى، الى العصر العباسي وما بعده.

يقال عن الرشوة أنها الجعل أو البذل (بمعنى العطاء) الذي يعطيه الشخص للقاضي أو المفتي كي يحكم له أو يحمله على ما يريد، وتميل العامة الى لفظة البرطيل، ويقال تبرطل أي إرتشى وجمعها براطيل وهي على حد قول المقريزي، المؤرخ اللبناني البقاعي، الأموال التي تؤخذ من الولاة والمحتسبين والقضاة والعمال (الموظفين) بالقهر والظلم. وهي ظاهرة عانى منها الشرق قديماً وانتشرت أيام المماليك والعثمانيين ولا نزال نعاني منها حتى اليوم.

الرشاوي في العصر العباسي

تشير مصادر العصر العباسي الى تفشّي ظاهرة دفع الرشاوى الى القواد ونساء القصر للحصول على منصب في الدولة وفي أيام المماليك تسلّط الخدام والجواري على السلطان وصار الناس يقصدونهم بالهدايا لقضاء حوائجهم وتجاهر الناس بالبراطيل حتى أنه نشأ في أيام الناصر بن قلاوون ما عرف بديوان البذل (أي ديوان البرطيل) وصار كل من له حاجة يأتي الى صاحب الديوان المذكور ويبذل ما يرومه مـــن الوظائف. وكان للإخشيد قهرمانة (مدبرة الدار) بلغ من تأثيرها أن خصومة حصلت بين القاضي وبين أحد الشهود، لإسقاط القاضي شهادته وكتب حكماً بذلك، فشكا إليها الشاهد ذلك، فأحضرت القاضي وأمرته بإحضار السجل فأحضره فمزقت الحكم الذي سجل فيه بإسقاط شهادة الشاهد.

أشار الكندي في كتابه عن الولاة والقضاة، الى قضاة كانوا لا يكتبون قضية إلا برشوة وآخرين انغمسوا فيها هم وكتّابهم، وآخرين بذلوا ألوف الدنانير لعزل قضاة والحصول على المنصب بدلاً منهم. وقد وصل التدهور أيام السلطان برسباي الى درجة أنه بعد وفاة أحد القضاة عيّن إبنه وكان شاباً صغيراً لم يستتر عذاريه بالشعر لكنه دفع ثلاثين ألف دينار فلم يلتفت لحداثة سنه ولا لكونه ما قرأ ولا درى وقديماً قيل:

تعد ذنوبه والذنب جمّ

ولكن الغنى ربّ غفورُ

وقال مؤرخنا المقريزي «غير ان الكفاءة غير معتبرة في زماننا – ما أشبه الليلة بالبارحة – بحيث ان بعض السوقة ممن نعرفه ولّي كتابه السر على مال قام به وهولا يحسن القراءة ولا الكتابة، فكان إذا ورد عليه كتاب وهو بين يدي النائب لا يقرأه.. ثم يمضي الى داره حتى يقرأه له رجل أعدّه عنده لذلك...».

ناهيك عن الغفلة والإهمال وقلّة الإحتراز الذي يوصف حديثاً بانه معادل لسوء النيّة. فقد ذكر المحبي ان أحمد الأنصاري الجابري (ت:1599م) وكان قاضي القضاة في مصر والشام والقسطنطينية، كان موصوفاً بالتهاون فيما يتعلق بأمور القضاء حتى أنه كان لا يتأمل الحجّة التي تعرض عليه للإمضاء بل كان يمضيها ثقة بالكاتب وتغافلاً عن التثبت لا سيما في أمور الشرع. وصدر من ذلك أن البعض أدخل عليه حجة فيها بيع السموات وتحديدها بالكرة الأرضية فعلّم عليها، واشتهر أمرها بين الناس. فأين هذه الحجة من صكوك الغفران؟ 

تقول العامة «كبّر العمّة وقلّل الذمة»، فقد كانت عادة القضاة والمفتين تكبير العمّة وأكمام الجبة لما في تكبيرهما من فوائد متنوّعة، وعيّر بعضهم بالجهل فقيل: ما عنده من العلم إلا العمامة والكم. وفي ذلك قال مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر:

وكم مدع للعلم من فرط جهله

ولم يدر ما جهل ولم يدر ما علم

فليس له من علمه غير جهله

وليس له إلا العمامة والكمّ

وكانت للجواري اليد الطولى في تولية المناصب وكان لزوجات بعض القضاة الدور الفاعل في نتائج الأحكام حتى قال الشاعر:

بلينا بقاض له زوجة

عليه أوامرها ماضيه

فيا ليته لم يكن قاضياً

ويا ليتها كانت القاضيه

مما رواه إبن أياس سنة 1563م قوله في قاضٍ:

قاضٍ إذا انفصل الخصمان ردهما

         الى جدالٍ بحكم غير منفصلٍ

يبدي الزهادة في الدنيا وزخرفها

      جهراً ويقبل سراً بعرة الجمل

الأبناء واستغلال مناصب آبائهم

أما عن مداخلات أبناء القضاة واستغلال مناصب آبائهم  فكثيرة، ذكر المقريزي في حوادث سنة 1337م انه تمّ عزل قاضي القضاة جلال الدين القرويني لما كان عليه ولده جمال الدين من كثرة اللهو والشره في المال وأخذ الرشوة من القضاة ونحوهم وتبسطة في الترف حتى أنه اقتنى عدة كثيرة من الخيول ورتب لها عدة من الخدم والركّابين وكان قد شغف بسماع الغناء ومعاشرة الأحداث من الأولاد وتجاهر بالمنكرات وزاد في قبح السيرة وانشأ بجوار بيت أبيه على النيل داراً بالغ في إتقانها وبلغت نفقاتها آلاف الدراهم فعنّف الأمير القاضي وشنع عليه ولامه على إنفاق ولده هذا المال الكبير فكثر الكلام مع جفائه للناس وسوء سيرته وسيرة اخوته وتغافل أبيهم عنهم وتصاممه عن الشكوى منهم وكثرت القصص فيه.

يقول المثل: برطل بتبرطع. وهكذا إذا برطل الإنسان صاحب السلطة بالهدايا قضى له أشغاله فوراً فيخرج من مكتبه كما يخرج الحمار المحبوس من الإسطبل فيصير يلبّط وينهق من الفرح. ونقل أنيس فريحة عن القس فغالي المثل القائل: البرطيل بيحلّ دكة القاضي. وفي صيغة أخرى البراطيل بتحل السراويل.

وقد عرف تاريخ لبنان الحديث الرشوة على أنواعها عبّر عنها تامر الملاط أفضل تمثيل في وصفه للمتصرف واصا باشا الذي استولى صهره كوبليان على أمره وتوغل في الفساد والإنتفاع:

قالوا قضى واصا وواراه الثرى

فأجبتهم وأنا الخبير بذاته

رنوا الفلوس على بلاط ضريحه

وأنا الكفيل لكم برد حياته

وفي زمن الانتداب قال طانيوس عبده في رئيس محكمة تجارة بيروت:

إذا ما رمت في دعوى خساره

     فقدمها لمحكمــــــــة التجاره

هناك ترى حقوقك مظلمات

     وليس سوى الرشا فيها مناره

يذكر ان الوالي الجديد كان يسارع الى مناظرة الوالي المعزول ويطالبه بالأموال التي جمعها أثناء إدارته مستخدماً في ذلك شتى أنواع والتعذيب وحتى مصادرة أمواله وأموال زوجته وأقاربه وحبسهم والتضييق عليهم. ولعل ذلك ما دعا أحمد البربير عندما أجبره الأمير يوسف الشهابي على تولّي قضاء بيروت ان اشترط على الأمير عدّة شروط منها أن يبعث الأمير رجلاً من قبله ليجلس في المحكمة ويستوفي من المتقاضين الرسوم المقررة للقضاة على الدعاوى بدل أن يصار الى إستيفائها من قبل القاضي كي لا يتعرّض فيما بعد للمحاسبة والطعن لإتخاذ الأمراء والولاة المحاسبة ذريعة للإيقاع بالموظفين والقضاة وإيذائهم ومصادرة أموالهم.

فهل شعار مكافحة الفساد هو حقيقة أم ذريعة؟ 



 * محامٍ ومؤرّخ