بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آذار 2020 12:04ص فن إدارة علماء الدين للأزمات وقت انتشار الأوبئة

حجم الخط
قد نكون مقصّرين في مجال الوعظ والإرشاد الديني، في الإلمام بفن إدارة الأزمات عند حصولها. فتقتصر الخطب في مجملها على الإكثار من الأدعية وجلد الذات لما اقترفناه من الآثام والمحرمات الدينية حتى نستحق من الله هذا العذاب. والحقيقة نكون قد أسأنا الظن بالله لو تخيّلنا أن كل ما نخطئ به ونقترفه من آثام دينية يردّه الله إلينا بعقوبات وبكوارث دنيوية تصيب الناس كافة. وقد غاب عن أذهاننا بأن سبب هذه الكوارث تعود الى فعل الإنسان بذاته ومسؤوليته في تسبّبها يتحمّلها في كثير من الأحيان هو وحده، جاء في القرآن الكريم {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.

إضافة الى أن هناك حكمة قد لا يلاحظها الكثير من الناس عند وقوع الكوارث والمصائب، وهي قدرتنا على مواجهتها وصبرنا على ويلاتها وشرورها، وحسن إدارتنا لما يعقبها من ارتدادات على صحتنا وحياتنا اليومية.

يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني، رحمه الله تعالى: «إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكاً مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا... يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك.. وَاعَلمَ أَنَّهُ لَوْلاَ الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ، فَسُبْحَانَ منْ يَرْحَمُ بِبَلاَئِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ».

في طيّات المصيبة إيجابيات كثيرة

فليست المصائب والأزمات كلها سلبية وخاصة إذا أحسنا إدارتها وتمكّنا من اجتيازها فهي تحمل في طياتها إيجابيات كثيرة من ضمنها أنها تعطينا فرصة للتغيير ومراجعة النفس ووضع الحلول والخطط المستقبلية لمواجهة أخطار مماثلة. فانطلاقاً من الآية القرآنية {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)، ندرك بأن الله تعالى جعل من بعد العسر اليسر حتى قال ابن عباس «لا يغلب عسر يسرين».

ومما ينبغي أن يترسّخ في ذهنيتنا ومنهجيتنا في إدارة أزمة انتشار الأوبئة والأمراض أن لا ننتظر حدوث أمور خارقة للعادة وعجائب وكرامات، ولا أن نعتقد بأن الشفاء يأتي من الأئمة والصالحين والأولياء فنحرص على التبرّك بآثارهم، بل نعتمد لتحديد الأسباب لولادة وانتشار هذه الأوبئة على الوسائل العلمية، وكيفية تداركها ومحاصرتها، وطرق العلاج منها، دون أن ننسى أن داخل كل أزمة ومعضلة وكارثة نمرّ بها فرص كثيرة للنجاة لمن كان زاده الإيمان بالله وقوته العزم والصبر والتدبّر والأخذ بالأسباب.

فالوباء في حالة انتشاره يترافق عادة مع عنصر المفاجأة، ويترتب عليه تحوّل مصيري في حياة الناس جميعا أفراداً ومؤسسات، مما يتعيّن على الأطباء والاخصائيين والمسؤولين السياسيين والدينيين مواجهة الناس بأخطاره، وكيفية انتشاره وطرق معالجته ومن ضمنها التشدّد في النظافة وغسل اليدين بشكل دائم وبعد الإستيقاظ من النوم، استشهاداً بالحديث: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)، ومن ضمنها الوضوء خمس مرات عند الصلاة وما يتبعه من غسل واستنشاق ومسح.

ومنها عدم الدخول والخروج من وإلى الأمكنة الموبوءة، ففي حديث نبوي ذكر النبي  صلى الله عليه وسلم الطاعون فقال: «إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه»، وفي حادثة طاعون عمواس الذي انتشر في زمن عمر ابن الخطاب في العام الثامن عشر وقتل فيه عشرون ألفاً من الناس، لم يرتفع الوباء إِلا بعد تفرّقهم في الأمكنة بعيداً عن التجمعات وأماكن الإكتظاظ السكاني والعمراني. خطب عمرو بن العاصفي الناس وقال لهم: أيُّها الناس! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتجنَّّبوا منه في الجبال، فخرج، وخرج النّاس، فتفرّقوا حتّى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ابن الخطاب ما فعله عمرو، فأقرّه عليه.

عناصر المقاومة للوباء

فتضافر العناصر في مقاومة الوباء تعتمد على القيادة السياسية الحكيمة لإدارة الأزمة والتثبت من القدرات المتاحة وعدم إصدار القرارات العشوائية، إضافة إلى إشراك كافة عناصر التأثير في المجتمع، ومن بينها التوعية الدينية الرشيدة التي تضع المؤمنين في موقف المسؤولية التي تعتمد على المبررات الفقهية الآتية:

- الأحكام الشرعية: تُبنى على قواعد ومقاصد عامة أساسها تحقيق مصالح الناس جميعاً، ومقاصد خاصة، منهاالضروريات الخمس مثل حماية الإنسان لنفسه وعدم الوقوع في التهلكة، ووجوب الحفاظ على النسل.

- حديث النبي  صلى الله عليه وسلم: (لا توردوا المريض على المصح) حيث أمر باجتناب المصابين بالأمراض المعدية وعدم مخالطتهم.

- القواعد الفقهية: يتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، الضرورة تقدّر بقدرها، ويرتكب أهون الشرّين وأخف الضررين، وأدنى المفسدتين، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والدفع أولى من الرفع حيث إذا أمكن دفع الضرر قبل وقوعه فهذا أولى من رفعه بالوقوع.

يُبنى على هذه المبررات الفقهية عدة أمور للحد من انتشار وانتقال العدوى:

- التفرّق والإبتعاد عن التجمعات وأماكن الإختلاط.

- حظرالتجمعات الدينية الإحتفالية.

- التشجيع على إقامة الصلوات الفردية.

- تجنّب الحضور الى المساجد للاستماع الى الدروس وحلقات الذكر والوعظ. ولتأدية صلوات الجماعة وصلاة يوم الجمعة والعيدين.

- إمكانية إلغاء الزيارات الدينية والعمرة والحج.

الإرشادات المسؤولة

غير أن هذه الإرشادات ترقى الى درجة الواجبات في حال صدرت عن المسؤولين السياسيين والدينيين بعد اعتماد التقارير الطبية ومسؤولي الصحة، ومن يتعدّاها يعتبر آثماً في الدنيا والآخرة.

فمن الإرشادات التي يتعيّن تبيانها في مجال الحد من انتشار الوباء إقرار الحجر الصحي والالتزام بالتعليمات الصادرة عن الجهات الرسمية، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرّ مبدأ الحجر الصحي، وقاية من الأمراض المعدية، وظهر ذلك جليّا في موضوعين وهما: مرض الطاعون، ومرض الجذام، وأنه يقاس على الطاعون والجذام كل مرض معدٍّ، أو وباء مهلك.

وما ينبغي معرفته بأن الأزمات تمرُّ بمراحل أربعة تبدأ بالتكوين ثم النمو السريع يليه الإنتشار والإتساع وأخيراً الإنحسار والإختفاء. 

عن الأحنف بن قيس قال: «ما سمعت بعد كلام رسول الله  صلى الله عليه وسلم أحسن من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول: إن للنكبات نهايات، لا بد لكل أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها». 

والنوم عنها ليس بمعنى الغفلة، فالنكبات قابلة من خلال التجارب للإزدياد على نحو خطر يجب تداركه والإعداد له، وإنما تعني الإستيعاب واحتواء النكبة وإدارة الأزمة عن وعي وبصيرة، بما فيها الصبر وعدم التخبّط والتسرّع والوقوع في الأوهام والحد من انتشار الإشاعات.