بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 حزيران 2018 12:05ص في الذكرى العشرين لرحيل الشيخ محمد متولي الشعراوي

ما زال النموذج الحقيقي للداعية الوسطي المستنير والمدرك لواقع عصره ومتطلباته

حجم الخط
على الرغم من مرور عشرين عاما على رحيل إمام الدعاة فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، فإن محراب الدعوة لا يزال يبحث عن نموذجه الفريد، الذي غزا قلوب وعقول كل من سمعه أو رآه، رحل الشيخ الشعراوي عن دنيانا في السابع عشر من عام 1998 ميلادية، بعد ان ترك تراثا هائلا من العلوم التي أفاض الله عليه بها.
فمنها يهتدي العاصي ويستريح الحيران، ويهدأ الثائر، ويروى الظمآن، يصدق فيه قول القائل: عاش أقوام وهم في الناس أموات، ومات أقوام وهم في الناس أحياء، فلا تزال كلماته وخواطره حول تفسير كتاب الله تعالى تعيش في قلوبنا، نتلهف على سماع صوته عبر تسجيلاته الاذاعية والتليفزيونية، وهو يجول بخواطره ويتنقل ويرتقي من معنى الى معنى دون تكلف ولا تقعر، شارحا ومفسرا لأعظم كتاب في الوجود. 

سيرة عطرة
ولد الشيخ محمد متولي الشعراوي بقرية دقادوس ـ مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية ـ في مصر، في الخامس عشر من شهر نيسان سنة ألف وتسعمائة وأحد عشر للميلاد، وكان والده مثقفا ومتدينا امتهن الزراعة كسائر أهل بلدته آنذاك، فحرص على تربية أولاده تربية إسلامية صحيحة.. فأدخل ولده إلى كتـَّاب القرية فحفظ القرآن الكريم وهو في الحادية عشرة من عمره، وجوده وهو في الرابعة عشرة. وقد تابع الشيخ الشعراوي دراسته فالتحق بمعهد الزقازيق الديني حتى نال الابتدائية سنة 1926م فالثانوية سنة 1932، ثم دخل الأزهر الشريف وتخرج من كلية اللغة العربية سنة 1941.
عمل الشيخ الشعراوي في حقل التدريس متنقلا بين معاهد الزقازيق والإسكندرية حتى العام 1951م حيث أعير للعمل في المملكة العربية السعودية، ثم عاد إلى القاهرة عام 1962م فعين وكيلا للدعوة بمديرية الأوقاف ثم مديرا لمكتب شيخ الأزهر السابق الشيخ حسن مأمون. وظل يرتقي في عمله حتى اختير مديرا لبعثة الأزهر إلى الجزائر ثم مدرسا في جامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية.
وفي العام 1976م عين الشيخ الشعراوي وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر وظل فيها حتى العام 1978م حيث قدم استقالته وتفرغ تماما للعمل في مجال الدعوة إلى الله تعالى. 
ونظرا لعلمه وثقة الناس والهيئات به اختير الشيخ الشعراوي رحمه الله عضوا في كثير من الهيئات والجمعيات العلمية والإسلامية منها: مجمع البحوث الإسلامية في مصر؛ مجلس الشورى المصري؛ مجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ مجمع الخالدين؛ الهيئة التأسيسية لرابطة العالم الإسلامي؛ وغيرها من المجامع والهيئات الإسلامية واللغوية التي عملت بجهد ومثابرة في مجال البحث الفقهي واللغوي.
اشتهر الإمام الراحل رحمه الله ببلاغته وحسن عربيته، فقد تذوق اللغة منذ نعومة أظفاره، فامتاز بصوته المسموع وأدائه الخطابي وشاعريته الإسلامية البليغة والفصيحة، كما حصل على عدد كبير من الجوائز والشهادات التقديرية وفي أواخر أيامه منح جائزة أحسن شخصية إسلامية من دبي فتبرع بها كاملة لصالح طلاب الأزهر الشريف.
وفي الشهر السادس من العام 1998م انتقل الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى الرفيق الأعلى بعد عمر طويل قضاه في خدمة العلم الشرعي الشريف.
جمعة
{الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ كما يقول الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماءـ كان رجل القرآن وأحد المفسرين الكبار وهو عالم رباني، وذواقة ايماني وأحد المربين الذين نوروا القلوب بعلم الاسلام، موضحا ان الشعراوي كان علما من أعلام الامة، وكوكبا من كواكب الهداية في سمائها، عاش عمره في خدمة العلم والقرآن والاسلام وترك وراءه علما زاخرا لكتاب الله تعالى.
وأضاف ان امام الدعاة الى الله تعالى، كان ممن حباهم الله فهم القرآن ورزقهم معرفة اسراره واعماقه، وله فيه لطائف ولمحات واشارات ونظرات، استطاع ان يؤثر في المجتمع، وكانت له نزعة ايمانية قوية، وآراء معينة في الفقه وفي غيره لا يوافقه عليها الآخرون، ولكن مهما اختلف الناس مع الشيخ الشعراوي، فلا يمكن ان يختلفوا في قيمته وقدره ودوره في الدعوة الى الله والى الاسلام.
مهنا
{ واعتبر الدكتور محمد مهنا الاستاذ بجامعة الأزهر، الشيخ الشعراوي- رحمه الله- النموذج الحقيقي للداعية الوسطي المستنير المدرك لواقع عصره دون افراط او تفريط في ثوابت الدين، وذلك لأن الدعوة لها مفهوم عميق، نفتقده بشدة في هذا الزمان، ولقد قال الله تعالى في كتابه الكريم {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
وقال إن الدعوة الحقة لا تكون الا لأهل البصيرة، فكما يقولون ان البصر ناظر العقل والبصيرة ناظر القلب، اذ لابد ان يكون الداعية الى الله تعالى من اهل القلوب واهل العلم بالله الذين يفهمون عنه، وهذا النموذج من الدعاة تمثل في فضيلة العالم الرباني الشيخ الشعراوي رحمه الله.
واشار الى ان ما نراه حاليا في زماننا تحت مسمى الدعوة ليس إلا تبليغا، لأنه لا يشترط في التبليغ مستوى معين من العلم، حيث قال  صلى الله عليه وسلم  «بلغوا عني ولو آية»، وقال في حديث آخر «نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها فرب مبلغ اوعى من سامع»، موضحا ان الشيخ الشعراوي كان داعية، من أطباء القلوب والنفوس والعقول الذين ملأوا الارض علما وحكمة، فاهتدى على ايديهم العصاة، واقتفى اثرهم الصالحون.
وحول كيفية استعادة نموذج الشيخ الشعراوي مرة اخرى في محراب الدعوة، يقول الدكتور محمد مهنا، إنه لا بد من العودة الى مفهوم تربية القدوة والسلوك والتربية للأئمة والدعاة والوعاظ من خلال مختلف الوسائل، لانه يوجد فرق كبير بين تعليم الامام او الداعية وتربيته، موضحا ان الداعية لا بد ان يتسلح بوسائل متعددة حتى يواكب مستجدات عصره ولا ينفصم عنه، مشددا على ان تقوى الله تعالى وطاعته واتباع سنة وهدى المصطفى  صلى الله عليه وسلم ، والاخلاص في القول والعمل والسر والعلن، من اهم الاسلحة التي تعين الداعية على الوصول الى قلوب الناس، والتأثير فيهم بالايجاب، مبينا انه للاسف الشديد ان المجتمع الاسلامي يُعاني بشدة مرض انفصام في الشخصية الحضارية للانسان المسلم، مما ترتب عليه الضعف والوهن الذي يعيشه من يتصدى لمهام الدعوة في الوقت الحالي.
هاشم
{ ومن جانبه يوضح الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء، إن فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله هو بحق إمام الدعاة، فقد كان من الأئمة القلائل الذين يظهرون في سماء التاريخ على فترات متباعدة وشاء الله تعالى له في هذه الفترة التي عاشها أن يؤثر تأثيرا بليغا في الحياة الإسلامية بسبب ما وهبه الله من منحة ربانية لأنه أحب كتاب الله تعالى فأفضى إليه بأسراره وأحب رسول الله  صلى الله عليه وسلم   فأفاض عليه من أنواره وهذا واضح من تفسيره وتحليله واستخراج الكنوز التي لم يقترب منها أحد قبله.
لقد كان مجددا حيث نهض بقلبه للوصول برأيه وفكره المعطاء وتحليل كل كلمة وحرف والوقوف وراء كل آية والغوص في بحار المعرفة لاستخراج الدرر الكامنة في كل لفظ من كتاب الله تعالى، وكان أسلوبه في تفسير كتاب الله يتميز بالدقة والعمق الى جانب الظهور والوضوح ووصول المعلومة الى عامة الناس قبل علمائهم، فكان ـ رحمه الله ـ يكتشف من القرآن ما فيه علاج للقلوب مثل اكتشافه للسر في الآية الكريمة.. {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله..} البقرة (102)، فيكتشف السر ويصوغ الدعاء الذي قال فيه: (اللهم إنك أقدرت بعض خلقك على السحر والشر واحتفظت لنفسك بإذن الضر فأعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه بحق قولك وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله). 
وقال: أما تفسير الشيخ الشعراوي للقرآن فكان يعتمد منهجه على عدة أمور منها التحليل اللغوي للكلمة وشرح معاني الآيات بأسلوب سهل ومبسط ليستوعبها العالم والرجل العادي، مع ضرب الأمثلة المحسوسة التي تقرب المعنى، كما كان يقف على العطاء القراني الذي لم يقف عليه من قبل أحد، كما كان يجمع تفسيره بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور والأسلوب العلمي والأدبي ويربط واقع الحياة ومعاني القرآن ويمزج بين الدين والدنيا ويضرب الشواهد من واقع الحياة. كما كان يغوص في المعاني، ولقد حباه الله بخصوصية العلم الرباني الذي يهبه الله تعالى لعباده المتقين.
ونعم نحن نقترح أن تطبع خواطر الشيخ الشعراوي حول كتاب الله وتدريسها لطلاب المدارس في مختلف المراحل التعليمية لما فيها من وسطية واعتدال ونشرها في قصور الثقافة باعتبارها رافدا من روافد الثقافة الإسلامية الصحيحة، فالشيخ الشعراوي رحمه الله كان واحدا من الذين لهم قدم صدق عند ربهم فعرفه العالم كله علما من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر وقطبا من أقطاب المفسرين العظام لكتاب الله تعالى على هدى وبصيرة بأسلوب فريد يأخذ الألباب ويأسر القلوب والعقول.
واختتم بالقول أطالب الجميع وخاصة وسائل الاعلام المختلفة (المقروءة والمسموعة والمرئية) بأن يمدوا يد العون لنشر تفسير الشيخ الشعراوي حتى تستفيد منه الاجيال التي لم تكن تعرفه ولعل الذي استطاع الاعلام استخراجه من تسجيلات سابقة للشيخ الشعراوي-رحمه الله- وتم اذاعتها اخيرا لهو أكبر شاهد على أن إمام الدعاة كانت له رؤية ثاقبة تسبق عصره وكأنه رحمه الله- يعيش بيننا الآن من خلال آرائه التي كلما استمعنا اليها تأكد لدينا بما لم يدع مجالا للشك,ان رؤيته للامور رؤية رشيدة نابعة من عالم جليل محب لدينه وامته ووطنه، وكان حاملا هموم الدعوة الاسلامية واوجاع بلده والمسلمين جميعا, وظل كذلك حتى فاضت روحه الطيبة الى رحمة مولاها, بعد ان ادى رسالته الدعوية والانسانية على اكمل واتم وجه.. رحم الله الامام الشعراوي رحمة واسعة ونفعنا والمسلمين بما تركه من علم نافع.
السمالوطي
{ وعن سر الحب الجماهيري من الناس للشيخ محمد متولي الشعراوي، يقول الدكتور نبيل السمالوطي استاذ علم الاجتماع بجامعة الازهر، ان الشيخ الشعراوي-رحمه الله- كان من المجددين الذين قال عنهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في الحديث «ان الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة امر دينها»، والمقصود من التجديد هنا، يعني بيان صحيح الدين الاسلامي في وسطيته وقيمه العليا وفيما يتضمنه من مكارم الاخلاق، وفي ابتعاده الكامل عن أشكال التطرف والعنف والارهاب، وقبوله لكل الناس مسلمين كانوا او غير مسلمين، لان الخلق عيال الله تعالى واقربهم الى الله احسنهم منهم الى عياله، كما جاء في الحديث.
واوضح ان الامام الشعراوي أبرز الكثير من جوانب الإعجاز اللغوي والبياني والبلاغي في القرآن، وقد كان خبيرا فيه، بجانب الاعجاز الاجتماعي والاسري والنفسي في كيفية ادارة واجراء الحوار، كما جاء في القرآن الكريم بين الله وملائكته وبين الله وانبيائه ورسله وبين الله والمؤمنين وبين الله والكافرين، حتى بين الله وابليس، وقد عرض هذه الانواع من الحوار في شكل راق يسهم في تعليم المستمعين آداب وفن الحوار، وهدف الحوار حتى يكون الحوار بناء ويتحقق منه الخير للجميع.
واشار الى ان من أسباب الاقبال على الاستماع الى الشيخ الشعراوي، انه كان قريبا منهم، ويخاطبهم باللغة التي يفهمونها على جميع مستوى طبقات المجتمع المتعلم منهم والأمي، والكبير والصغير، وهذه القدرة الخارقة نطلق عليها ملكة التواصل مع الآخرين من جميع فئات المجتمع، موضحا ان هذه القدرة فيها جانب فطري، مما يؤكد ان ليس كل من يدرس ويتعلم العلوم الشرعية، لديه القدرة على التواصل مع الآخرين، وعلى الاقناع والشرح والتفسير وعلى التأثير النفسي والعقلي والاجتماعي في سلوك الآخرين، وهذا الجانب الفطري كان متوافرا في شخصية الشيخ الشعراوي.
وايضا من اسباب الاقبال على فضيلة الشيخ الشعراوي، جانب الدراسات الشرعية المتعمقة، وهذا الجانب كان واضحا جليا في تناول الشيخ الشعراوي لتفسير آيات كتاب الله تعالى وعرضها باسلوب فريد يؤكد ذلك، أما الجانب الثالث فهو حب الناس، فالانسان لا يتأثر إلا بمن يحب، وقد كان رحمه الله محبوبا من الجميع، منذ ان ظهر للناس في برنامج «نور على نور» مع الاعلامي الراحل احمد فراج، والعجيب ان هذ الحب والتأثير في الناس لا يزال موجودا حتى بعد رحيل الشيخ الشعراوي، مما يدل دلالة قاطعة على اخلاصه فيما أراد ان يقوله للناس، رحم الله الشيخ الشعراوي رحمة واسعة، وخلف الامة خيرا في عقبه.