بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تموز 2023 12:00ص في العلاقة بين المهاجرين والسكان الأصليين من خلال الهجرة النبوية

حجم الخط
في سياق الأحداث الدولية وما رافقها من نزوح وهجرة مجموعات كبيرة الى بلاد أكثر أمناً واستقراراً، تضاربت مصالح النازحين والمهاجرين مع الشعوب التي استقروا فيها، فكانوا مصدر قلق واضطراب في كثير من الأحيان ونفع وإثراء في جوانب أخرى.
إزاء هذه الجوانب المتعارضة والمتضاربة، يطرح سؤال عما يمكن لنا أن نستفيده من عِبَر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم  من موطنه الأصلي مكرهاً الى المدينة التي استقبلته وناصرته في حروبه ضد زعماء وقادة مكة. ولعل المفارقة في بداية الموضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يدخل المدينة عنوة رغماً عن أهلها وإنما سبقتها لقاءات جمعته مع أبنائها وتبعتها مبايعة وعهد على استقباله ومناصرته، بينما كانت هجرة ونزوح المجموعات الحالية مباغتة ودون استئذان نظراً لطبيعة الصراعات الإقليمية وما يتخللها من عنف وتدمير سريع وشامل وفتّاك. والمفارقة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقود هذه الهجرة في كل مراحلها، بينما الهجرة والنزوح الحاليين تتخبطهما الفوضى وغياب القائد. كما أن المفارقة الثالثة هو إقامة النبي صلى الله عليه وسلم  أسس بناء دولة في مدينة استقباله، بينما لا توجد مثل هذه النيّة لدى المهاجرين والنازحين الجدد في إنشاء أو تعديل أو استبدال نظام دولة قائم بنظام جديد، إلّا إذا كانت هناك نيّة مبيّتة لدى قادة العالم بتغيير ديمغرافي يتبعه إقامة شرق أوسط جديد.
ضمّت يثرب إضافة الى السكان الأصليين «الأنصار»، المهاجرين الذين تركوا وراِئهم بلادهم وأموالهم وأهلهم خشية على أنفسهم ورغبة في نصرة الدين الجديد. والأنصار وهم أهل المدينة هم الذين استقبلوا المهاجرين وأكرموهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم وقاسموهم أموالهم وكانوا مثالا في الكرم والأخاء والتضحية. إزاء ذلك كان مدح النبي صلى الله عليه وسلم  لهم يشعرهم بمحبته العميقة لهم «إنَّ النَّاسَ يُهَاجِرونَ إليكُم ولا تُهَاجِرونَ إليهِم، والَّذي نفسي بِيَدِه، لا يُحِبُّ الأنصارَ رَجلٌ حتَّى يَلقَى اللهَ؛ إلَّا لَقِيَ اللهَ وهوَ يُحِبُّه ولا يُبغِضُ الأنصارَ رَجلٌ حتَّى يَلقَى اللهَ، إلَّا لَقِيَ اللهَ وهوَ يُبغِضُه»، كما خصّهم القرآن الكريم بهذه الآية: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

منهجية النبي في الهجرة

فكانت منهجية النبي صلى الله عليه وسلم  في الهجرة هي ترسيخ قيم المحبة بين المهاجرين والأنصار. وكان لا بد له أولاً من نزع الخلافات المستحكمة بين الأنصار أنفسهم، فقضى على الخلافات القائمة والمتجددة بين الأوس والخزرج، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين. ولم يكن ذلك بالأمر السهل إذ أحس النبي صلى الله عليه وسلم  بأن إقامة المهاجرين قد تكون دائمة، فسعى الى تخصيصهم بأراضٍ لا يملكها أحد وإسكانهم بها، كما أنه كان حريصاً بالقضاء على أي تمايز للمهاجرين يشعر به الأنصار فكان يطيّب خاطرهم ويتودد إليهم، من ذلك ما أصاب الناس وخاصة «المؤلفة قلوبهم» من غنائم في فتح حنين فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبهم ما أصاب الناس فقال لهم: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ برَسولِ اللهِ إلى رِحَالِكُمْ؟ الأنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءاً مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَشِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي علَى الحَوْضِ».
كما أن منهجية النبي صلى الله عليه وسلم  في الهجرة تجاوزت السعي الى القضاء على الخلافات التي كانت مستحكمة بين الأوس والخزرج وتوحيدهم، وترسيخ العلاقات بين المهاجرين والأنصار وتدعيمها من خلال توطيد قيم المحبة والأخاء بينهم، بل حرص النبي صلى الله عليه وسلم  من خلال هذه المنهجية على سرعة البت في الشكاوى التي كانت ترد الى مسمعه من خلافات طبيعية تنشأ في كل المجتمعات التي يتشارك في الإقامة بها الوافدون مع السكان الأصليون. فحرص في منهجيته على التصدي للإشاعات المغرضة التي كان يطلقها البعض على سبيل المشاحنة والفتنة بين المهاجرين والأنصار. ففي حديث رواه جابر بن عبد الله قال : غَزَوْنَا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقدْ ثَابَ معهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا، وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غَضَباً شَدِيداً حتَّى تَدَاعَوْا، وقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  فَقالَ: ما بَالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟ ثُمَّ قالَ: ما شَأْنُهُمْ؟ فَأُخْبِرَ بكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيَّ، قالَ: فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعُوهَا؛ فإنَّهَا خَبِيثَةٌ. وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ: أقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا؟ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فَقالَ عُمَرُ: ألَا نَقْتُلُ يا رَسولَ اللَّهِ هذا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ».

قاعدة جديدة في العلاقات الدولية

من منهجية الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم  أرسى قاعدة جديدة في العلاقات الدولية التي كانت قائمة على غلبة الشعوب المنتصرة، وذلك من خلال المداولات والإجتماعات الحثيثة التي قام بها في مجتمع المدينة بين جميع مكوناته من مسلمين ويهود ووثنيين حيث دعا الى عدم الفصل والتمييز بين الأفراد الذين يعيشون على نفس الأرض ويرغبون في العيش معاً لا من حيث انتمائهم الديني ولا من حيث نسبهم العرقي ولا من حيث تنوّع السنتهم ولغاتهم. الأصل في هذا المبدأ يستنبط من صحيفة المدينة التي تعتبر أول وثيقة دستورية مكتوبة في التاريخ الإنساني. هذه الوثيقة تنص على أن سكان يثرب من المسلمين المهاجرين والأنصار واليهود بمختلف تشعباتهم هم أمة واحدة. هذا التكوين السياسي يفترض أن يكون الجميع متساوين في الحقوق والواجبات والتي أهمّها: تحمّل المصاريف والتكاليف والأعباء التي تقع على كاهل الجميع والدفاع عن الدولة: «وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، وإنّ على اليهود نفقاتهم، وعلى المسلمين نفقاتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفة، وإنّ النصر للمظلوم، وإنّ يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين».
لعلّي أختم هذه الدروس والعِبَر بما ينبغي لكل الجماعات والأفراد الذين يفدون مهاجرين أو نازحين الى مجتمعات يقيم فيها سكانها الأصليون، أن يكونوا أكثر الناس حفاظاً على احترام القوانين والأنظمة وأجودهم في التعامل مع الآخرين وأقلّهم مشاحنة وعدواناً وأكثرهم التزاماً بقيم الأخلاق والآداب وحسن المظهر والملبس. ورد عن ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش»، وقد ذكر العلماء عن معنى الفحش والتفحش أن الإنسان يلبس الملابس القذرة، فيترك شعره في حالة رثّة، ويمشي في الطريق وهو على هيئة منكرة، فلا ينبغي له ذلك بل لا بد أن يصلح من نفسه.