بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 تموز 2019 12:05ص في تقرير حديث عن مرصد الأزهر: الفقر... وأثره في صناعة التطرُّف

حجم الخط
أصدر مرصد الأزهر باللغات الأجنبية تقريرا مفصّلا أوضح فيه أثر الفقر في صناعة ونشر التطرف بين الشعوب، حيث أوضح أن من الإشكاليات المنهجية في التعامل مع أي قضية علمية أو ظاهرة مجتمعية هي الولوج إلى علاجها، وتحديد الجهات التي يجب أن تتحمَّل عبء هذا العلاج، والمسارعة إلى مناقشة الحلول، وتفنيد الشبهات، قبل الوقوف الدقيق على حقيقة القضية أو الظاهرة؛ من حيث التعريف، وتحديد الأسباب، والدوافع.

وسوف نحاول، قدر استطاعتنا، في هذا التقرير اتباع المنهج العلمي، وسنبدأ بتعريف الفقر، ومخاطره، وكيف تعرّض الإسلام له، وقدَّم حلولاً لعلاجه؟ وما عَلاقة الفقر المباشرة وغير المباشرة بالتطرف والإرهاب؟ وما أثر الفقر في صناعة الشخصية المتطرفة؟ وكيف يمكن للفقر أن يكون من العوامل التي تحبط الأفراد، وتجعلهم فريسة سهلة في يد الجماعات المتطرفة التي تبشّرهم بحياة أفضل؟

تعريف الفقر

تعرِّف المنظمات الدولية الفقر على أنه: «الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم، وكل ما يُعَدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق للحياة».

واتَّسع هذا المفهوم وأصبح أكثر شمولاً، خصوصاً بعد قمة «كوبنهاغن» عام 2006م، التي أكدت على أهمية حصول الفرد على الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وتأمين بيئة صحية، وفرص المشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرارات في جوانب الحياة المدنية.

وإذا كان الإنسانُ نِتاجاً لواقعه وسماته الشخصية والسلوكية، نِتاجاً لظروف معيشته، وإذا كانت المتغيّرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تؤثر في الأفراد وفي حياتهم الشخصية؛ فإن الإنسان الفقير في المجتمع الغني قد يشعر بالحرمان والاغتراب في مجتمعه، وقد يقوده هذا الشعور إلى اتخاذ مواقف تختلف إيجاباً وسلباً، وَفقاً لثقافة الشخص ذاته، ومقدار ما يقدّمه له المجتمع الذي يعيش فيه من احتواء أو إهمال.

ومن هنا ندرك أن الفقر قد يمثل بذاته سبباً مباشراً من أسباب التطرف، وقد يكون عاملاً مساعداً يقود الشخص إلى التطرف، وقد لا يكون هذا أو ذاك، وَفقاً للشخص الفقير ذاته، ووَفقاً لحالة المجتمع الذي يعيشُ فيه.

والفقر ظاهرة شديدة الخطورة، لها آثار سلبية على شتى مناحي الحياة، وتربطها علاقات وثيقة الصلة بالجهل والأمية؛ إذ إنها تضرُّ بالتعليم، وتزيد من الجهل والأمية في المجتمعات، ويترتب على ذلك إضرار بالصحة؛ حيث إنه، وَفقاً لبعض التقارير الدولية، مَن حُرموا من التعليم يصعب عليهم حماية أنفسهم من الأمراض والفيروسات، التي يمكن أن توديَ بحياتهم.

الفقر والمنظمات الدولية

ولخطورة الفقر قامت الأمم المتحدة بالعديد من الإجراءات لمحاربته، فاختارت يوماً دولياً للعمل الخيري، وحدَّدت له يوم «الخامس من سبتمبر»؛ لموافقته ذكرى وفاة «الأم تريزا»، التي حصلتْ على جائزة «نوبل للسلام» عام 1979م؛ من أجل جهودها في مكافحة الفقر.

كما أعلنتْ «الفاو» (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) يوم 16  تشرين الأول من كل عام «يوماً عالمياً للأغذية»؛ بهدف زيادة وعي الرأي العام العالمي بمشكلة الجوع في العالم، والتشجيع على توجيه قدر أكبر من الاهتمام إلى الإنتاج الزراعي في جميع البلدان، والنهوض بدول العالم الثالث، ونقل التكنولوجيا إليها، ومكافحة الجوع وسوء التغذية فيها، وتشجيع مشاركة سكان الريف، وخاصةً النساء والفئات المهمّشة في القرارات، والأنشطة التي تؤثر على ظروف معيشتهم.

وقد أصدرت منظمة «الفاو» الخميس 20 أيلول 2018م، تقريراً مهماً جاء فيه أن العالم به 820 مليون إنسانٍ يواجهون الفقرَ ونقص الغذاء وشبح المجاعات، يعيشون في 39 دولة، وأنهم في حاجة ماسَّة إلى مساعدات غذائية من العالم الخارجي، موضحة أن من بين هذه الدول 31 دولة إفريقية، و7 دول آسيوية، ودولة واحدة من دول الكاريبي.

وبالنظر إلى هذه الإحصائية، نجد أن دول إفريقيا لها نصيب الأسد من الفقر، وفي الوقت ذاته نرى بأعيننا أن لها نصيباً كبيراً من الحركات المتطرفة، الأمر الذي يؤكد بلا شكٍّ وجود علاقة وثيقة العُرى بين الفقر وانتشار التطرف وجماعات القتل والعنف.

ويؤكد هذا أيضاً ما جاء في تقريرٍ لرئيس البنك الدولي للإسكان والتعمير في الفترة بين عامي 1966، 1968 أنه كانت هناك 164 حادثةَ عنفٍ استُخدمت فيها القوة، وقع معظمها في الدول الفقيرة، عدا حادثٍ واحدٍ تم في دولة غنية.

العلاقة بين الفقر والتطرف

من خلال ما سبق، نستطيعُ القولَ بإن الفقرَ يُعدُّ حالة مثالية تُسهِّلُ على الجماعات المتطرفة استقطاب أفراد جُدُد إلى صفوفها، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على جميع الحالات التي اتخذت من العنف منهجاً لها، وانضمت إلى الجماعات الإرهابية؛ إذ إنه تم استقطاب أعداد غير قليلة من الشباب الذين ينتمون للطبقات المتوسطة في المجتمعات المختلفة، شباب مستقرون اجتماعيّا، ويشغلون وظائف مرموقة، ويحصلون على رواتب جيدة، ومع ذلك انضموا للجماعات المتطرفة.

ونردّ على ذلك بأن أسباب التطرف بصفةٍ عامةٍ تمثل مشكلة معقّدة ومتعددة الجوانب، تتداخل فيها أبعاد شخصية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإعلامية، وربما هذا النوع من الشباب لم يتم تجنيده بسبب الفقر أو البطالة أو العوز، ربما لسببٍ آخر من الأسباب الأخرى التي تجعل الشخص ينتهج العنف، والتي يمكن تناولها في مقالات أخرى، أو ربما هؤلاء الشباب من الفئة التي تُسمّى «المنجزين المستائين» – وهم الشباب المتعلمين والطموحين الذين يفتقرون للفرص الحقيقية للتقدّم إلى الأمام، ويزداد استياؤهم عندما يقارنون أوضاعهم بأوضاع النُّخَب الثرية التي تعيش بجانبهم، أو عندما يقارنون احتمالية إحرازهم للتقدم بالمقارنة مع النمو والتطوّر في العالم المتقدم، هذا الأمر ينطبق بشكل خاص في الحالات التي يؤدي فيها الفساد الحكومي لتقويض النمو الاقتصادي والحكم الرشيد.

معالجة الإسلام للفقر

وضع الإسلام حلولاً عديدة للفقر؛ من أهمها تشجيع الأفراد على عدم الاستسلام للفقر، والسعي في الأرض وطلب الرزق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.

كما حرص الإسلام أيضاً على دفع المسلمين للعمل، وفتح أمامهم أبواب العمل الصالح؛ ليختار كل إنسان ما يناسبه وما يقوى عليه، وجاء الأمر في القرآن الكريم بالانتشار في الأرض عقب أداء الصلاة طلباً للعمل وسعياً للرزق، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

كما شجع النبي صلى الله عليه وسلم على العمل وعدم التواكل على الغير في الرزق، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أكلَ أحدٌ طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإن نبيَّ الله داود كان يأكلُ من عملِ يدِه».

أيضاً شجع الإسلام من لم يجد عملاً في محل إقامته ألا يستسلم، وألا يقبل ما هو فيه من ضيق في الرزق وصعوبة في الظروف المعيشية، إنما أمرَه بالهجرة إلى مكان آخر والسعي في أرض الله الواسعة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}.

 كما فرض الإسلامُ الزكاةَ على الأغنياء، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، وحثّ المسلمين على إخراج الصدقات، وحدد لهم الأصناف المستحِقَّة لها، وجعل في مقدمتها الفقراء، قال تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

كما رغَّب الإسلام في صدقة التطوع التي يُخرجها المسلم دون تقيّد بزمان أو مكان، قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}..

كما شجع الإسلام على ثقافة «الوقف» أو «الصدقات الجارية»، وجعل ثوابها ممتدًّا حتى بعد وفاة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم).

في نهاية هذا التَّطواف السريع مع الفقر وعَلاقته بالتطرف، يمكن أن نتوصل إلى مجموعة من النتائج، نستعرضها على النحو الآتي:

- لا يمكن محاربة التطرف بالقوة الأمنية والعسكرية فقط، بل لا بد من تجفيف منابعه، والتي يعتبر الفقر واحداً منها.

- الثقافة الدينية مهمَّة للغاية في معالجة الفقر، ووقاية الشباب من استقطاب الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ولذلك يقع على عاتق علماء الدين دوراً مهمًّا في إبراز الطرق والوسائل الشرعية، التي حددها الدين لمعالجة الفقر وعدم الاستسلام له.

- يجب تعظيم ثقافة العمل التطوعي والخيري، وتشجيع جميع فئات الشعب على ممارستها، وخصوصاً الأطفال والشباب، ونحن بذلك نقدم مساعدات للمحتاجين، وفي الوقت ذاته نقوي النزعة الإنسانية لدى الشباب، ونغرس فيهم ثقافة «الأخوة الإنسانية» الكفيلة بحمايتهم من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة.

- محاربة الفساد والواسطة والمحسوبية، ومعاقبة من يُهدرون المال العام من الأمور المهمة التي تعطي الشباب الأملَ في غدٍ أفضل.

- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً في مكافحة الفقر، عن طريق إبراز نماذج ناجحة من مُختلِفِ فئاتِ المجتمع، ممَّن كانوا فقراء ولم يُعِقهُم فقرُهم عن النجاح والتفوق، وما أكثرَهم في مجتمعاتنا العربية.