بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 آذار 2021 12:01ص في ذكرى الإسراء والمعراج

حجم الخط
الشيخ يوسف جمعة سلامة*


يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

إننا نعيش في هذه الأيام في ظلال شهر رجب، ولهذا الشهرِ شأن عظيم فهو من الشهور الحُرُم، وفي هذا الشهر من كلّ عام يتذكر المسلمون ذكرى من أعزّ الذكريات، إنها ذكرى معجزة الإسراء والمعراج التي حدثت في هذا الشهر قبل الهجرة النبوية الشريفة، فحادثة الإسراء من المعجزات، والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية؛ لذلك فإنّ ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالأقصى والقدس وفلسطين هو ارتباط عقدي، وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً ولا موسمياً مؤقتاً.

معجزة الإسراء والمعراج

لقد سُمِّيت «سورة الإسراء» بهذا الاسم تخليداً لتلك المعجزة الربانية التي أكرم الله بها سيّدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم-، حيث خَصَّه الله - سبحانه وتعالى - بالإسراء والمعراج دون سائر الأنبياء؛ ليطلعه على ملكوت السموات والأرض، ويريه من آياته الكبرى، فقد أيَّدَ الله سبحانه وتعالى رسولنا محمداً -عليه الصلاة والسلام- بمعجزات كثيرة، وكان من أَجَلِّهَا معجزة الإسراء والمعراج، وهي السفر ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به إلى السموات العلى، حيث رأى من آيات ربه الكبرى، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، وكانت معجزة الإسراء والمعراج مظهراً من مظاهر التكريم الربانيّ لرسولنا محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، فهي جائزة ما بعدها جائزة ومِنْحَة بعد مِحْنَة أَيَّدَ الله سبحانه وتعالى بها محمداً - صلى الله عليه وسلم-، حيث فرّج الله كُربته وأزال همّه ورفع قدره ويسَّر أمره، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.

الرّبط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

إِنَ من أهمّ العظات والعبر المأخوذة من رحلة الإسراء والمعراج هي التّفكر في ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بمدينة القدس، فهذا الربط لم يكن عبثاً ولكنه إشارة وتنبيه لهذه الأمة بضرورة المحافظة على المسجد الأقصى المبارك؛ لِمَا لَهُ من القُدسية عند الله سبحانه وتعالى، وقد تجلّى ذلك الربط في أمور عديدة، منها:

- لقد ربط الله -سبحانه وتعالى- بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك برباط وثيق في الآية الأولى من سورة الإسراء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

- كما ربط رسولنا  صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى المبارك بشقيقيه المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقد جاء في الحديث أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى).

- لقد كان المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى للمسلمين منذ فُرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج حتى أَذِنَ الله بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، كما جاء في الحديث الشريف: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: (صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ).

- كما أنّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجد بُنِيَ في الأرض بعد المسجد الحرام، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (قلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ مَسْجدٍ وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: «اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «اَلْمَسجِدُ الأقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيه»).

القدس والأقصى... في ذكرى الإسراء والمعراج

تحلّ علينا هذه الذكرى المباركة مع ازدياد الهجمة الإسرائيلية الشرسة على بلادنا فلسطين بصفة عامة ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة، والتي تهدف إلى تزييف الحضارة وتغيير التاريخ من أجل طمس المعالم الحضارية والتاريخية العربية والإسلامية في فلسطين ومدينة القدس وقلبها المسجد الأقصى المبارك.

إِنّ مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسؤولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذّود عنه، إنما هي مسؤولية العرب والمسلمين جميعاً في مُساندة هذا الشعب والوقوف بجانبه ودعم صموده؛ للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي يتعرض فيها المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة لمؤامرات خبيثة، ومن هنا فلا بُدَّ لكلّ مسلم أن يعي تماماً واجبه والدّوْر المنوط به تجاه المسجد الأقصى والقدس وفلسطين.

وبهذه المناسبة فإننا نُوجه تحية إكبار وإجلال لأهلنا المقدسيين ولعلمائنا الأَجِلاَّء وللشخصيات الدينية والوطنية، ولسدنة الأقصى وحراسه وللمرابطين داخل المسجد الأقصى على صمودهم وتصديهم الدائم لقطعان المستوطنين ودفاعهم المستمر عن المسجد الأقصى والمدينة المقدسة، حيث إنهم يشكلون خَطّ الدفاع الأول عن الأقصى والقدس والمقدسات ويتصدون للمُقتحمين بشَتَّى الوسائل المُمكنة؛ دفاعاً عن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين.

دروس من الإسراء والمعراج

نتعلّم من ذكرى الإسراء والمعراج بأنّ المسلمين بصفة عامة وأبناء شعبنا الفلسطيني بصفة خاصة، أحوج ما يكونون اليوم إلى توحيد كلمتهم وجمع صفوفهم، وأن يكونوا متحابين متآلفين، امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.

ونتعلّم من هذه الذكرى المباركة ضرورة الثّقة في الله سبحانه وتعالى لمواجهة ما نحن فيه من مصاعب، فعندما تشتدّ الأزمات يكون السبيل إلى الخلاص منها باللجوء إلى الله عزَّ وجلَّ، وصفاء النّفوس ، والسّيْر على هدي القرآن الكريم وسنة رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم-.

وَتُعلّمنا أحداث الإسراء والمعراج أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسراً.

مِنْ كلّ هذه المعاني نفهم ونستنتج أنّ الأمل يأتي بعد الألم، وأنَّ المِحَنَ تسبق المِنَح، وأنّ الضيق يأتي بعده الفرج، وأنّ مع العُسر يُسراً، فقد علّمنا القرآن الكريم هذه المفاهيم لِيُؤَصِّل فينا عدم اليأس والقنوط، والاستبشار دائماً، والثّقة في نصر الله لعباده المؤمنين، مهما ضاقت بهم السُّبل وتقطَّعت بهم الأسباب، فهذه سُنّة الله في خلقه، لِيُمَحِّصَ المؤمنين وَيَمْحَق الكافرين، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.

والمسلمون اليوم وهم يُحيون هذه الذكرى يجب أن يتذكروا مسرى نبيهم - عليه الصلاة والسلام - الذي يتعرّض لمجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فالقدس لا يُمكن أن تُنسى، أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي والإسلامي وتحويلها إلى مدينة يهودية، ففي كل يوم تدفن جرافات الاحتلال الصهيوني جزءاً عزيزاً من تُراثنا، كما تتهيأ معاول الهدم لتقويض جزء جديد، إنهم يريدون لمدينة القدس أنْ تندثر وأنْ يندثر أهلها، ولكنّ القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق، فليس في العالم قاطبة مدينة تُثير الخواطر وتشحذُ خيال المؤمنين مثل القدس الشريف التي وصفها ابنها العلامة الجغرافي شمس الدين أبو عبد الله المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)، بأنها «أجلّ المُدن قاطبةً، لأنها مهبط الوحي ومدينة الأنبياء، ومجتمع الدنيا والآخرة»، هذه العبارات على إيجازها، تختصر تاريخاً مُمْتداً طوله أكثر من أربعة آلاف سنة، شهدت المدينة خلالها أُمَماً وحضارات، وتعاقب عليها أفواج من الغُزاة والطّامعين.

القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظُّلم ، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنَّ الفجر آتٍ بإذن الله، رغم أعداء أمتنا كلّهم، نسأل الله أن يحفظ مقدساتنا وشعبنا من كلّ سوء.

 * خطيب المسجد الأقصى