بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 شباط 2020 12:05ص قراءة التراث بين الحداثة والسلفية

د. إبراهيم نجم د. إبراهيم نجم
حجم الخط
د. إبراهيم نجم*

هناك معركة كلامية تدور الآن حول قضية التجديد، فهي قضية الساعة بلا خلاف، وفي إطار الكلام عن التجديد ومقاصده ووسائله تبرز تلقائيا قضية أخرى هي قضية التراث كيف نتعامل معه، وما نذر منه وما نأخذ، ويدور كلام طويل حول مناهج التراث وكيفية الاستفادة منها ومسائله التي تجاوز بعض منها حركة التطوّر الواقعية بأوجهها الأربعة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ثم يبرز في ثنايا هذا الكلام الحديث عن السنّة المطهرة وعن تنقيتها من الدخيل والباطل وما يعارض القرآن والعقل.

تيارات مختلفة

وعند الحديث عن السنّة تبرز تيارات تختلف نظرتها إلى السنّة توثيقا وعملا واستدلالا. 

التيار الأول هو تيار الحداثة حيث ينظر إلى كتب السنّة على أنها مجرد مرويات «عنعنة» لم تخضع للدرجة العالية من الدقة والتوثيق، ومن ثم فإن تعاطينا معها لا يفرق عن أي كتب تراث أخرى، وهم بذلك يتجاهلون تلك الجهود الجبّارة التي بذلها المحدثون في جمع وتوثيق السنّة النبوية المطهرة ويتجاهلون أيضا كل علوم السنّة التي قامت حول توثيق الإسناد وحفظه وصيانته من أي دسّ أو تحريف، وعدم المعرفة بعلوم الإسناد يؤدّي إلى تسطيح معنى الرواية في صورة (فلان عن فلان).

ويا ليتهم تعمّقوا في فهم علوم الإسناد والتوثيق قبل أن يقعوا في الإنكار الذي لا معنى له ولا مبرر، إذ إن الدقة العالية التي ابتكرها علماء الحديث في توثيق النصوص قد شهد بها كبار المفكرين الغربيين واعتبروها من مفاخر حضارة العرب واستفادوا منها في تطوير علوم التوثيق عندهم.

والذي أوقع فئة الحداثيين في هذا الغلط تصادمهم مع ظواهر النصوص التي زعموا أنها معارضة للعقل أو لمكارم الأخلاق ولم يفهموها على وجهها الصحيح في إطار من جمع كل ما ورد في القضية مع استعمال قواعد الأصول والاستنباط التي استعملها المجتهدون في التعامل مع هذه الظواهر.

لقد اتخذ الحداثيون موقف الرفض، ولم يفطنوا إلى أن هذه الطريقة لو تعاملوا بها مع القرآن الكريم سوف تسبّب لهم مشاكل كثيرة وتوقعهم في تناقضات لا نهاية لها، لأن المنهج سطحي واجتزائي ويعمل في النصوص بمعزل عن قواعد الأصول وبعيداً عن فهم مقاصد وأسرار التشريع، ومن ثم فإن أي كلام عن التجديد من قبلهم لن يكون إلا إنكارا للتراث الذي هو واقع، أو هدما له بالكليّة.

أما التيار الثاني فهو وقف عند نفس نقطة ظاهرية النص التي أنكرها الحداثي لكنه لم يعمل مناهج الاستنباط ولا فهم قواعده، ففهم الظاهر من النص كما هو دون أن يجمع جميع النصوص، ودون أن يعمل القواعد اللغوية والأصولية، فوقعوا في حالة كبيرة من الجمود والتشدّد والعنف والتكفير.

حقيقة واحدة

والمنهجان الحداثي والسلفي حقيقتهما واحدة، وهي رفض المنهج والتعامل مع النصوص بظاهرية وبناء على ذلك، فالحداثي ينكر النص الثابت بالفعل، والسلفي يجمد عليه متجاوزا مقاصد الشريعة وعللها وأسرارها المبثوثة في التشريع، وهذه الظواهر الناشئة التي تتعامل مع النص الشرعي بلا منهجية لم تكن موجودة قبل ذلك في تاريخ الإسلام، نظرا لوجود المنهج المتكامل المكوّن من عدة علوم يستعملها العلماء في توثيق وفهم النص المقدّس ومن أهم هذه العلوم علوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلوم اللغة العربية، وهذه العلوم ليست علوماً مخترعة اخترعها العلماء من عند أنفسهم حتى تكون لهم السيطرة على فهم وتوجيه النص، ومن ثم التحكم في دلالته وحمل الناس على ذلك كما يحلو لبعضهم أن يفهم الأمر على هذا النحو ويدّعي أن هذه العلوم، يعني علوم الشريعة وأصول التوثيق والاستنباط، لا أصل لها وهي مخترعة اختراعا من قبل أهل العلم، وهذا الكلام لم يستطع حتى أعداء الإسلام أن يفكروا مجرد تفكير فيه، لأن هذه العلوم جميعها كانت ملكات موجودة عند أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم، كانوا يستنبطون بواسطتها الأحكام والمعاني من النصوص الشرعية، وأما عمل العلماء فقد استخرجوا هذا المنهج وجرّدوه من فتاوى الصحابة، رضي الله عنهم، ومن خلال النظر أيضا في تصرفاتهم وأقضيتهم حتى إننا لنستطيع أن نرد مدرسة أهل الرأي إلى طريقة الإمام علي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله عنهم جميعا، ونستطيع أن نرد مدرسة أهل الحديث إلى فقه عمر بن الخطاب وابن عمر وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو وغيرهم، فمن أتى بعدهم مفرع عليهم ومنظر لأصولهم مستخرج لها ومدوّن لها، وهذا هو معنى الوضع الذي عناه العلماء بأن الشافعي مثلا واضع علم الأصول.

فالوضع هنا بمعنى الكشف والتدوين والتقسيم والشرح لا بمعنى الإنشاء والابتكار، هذه حقيقة يغفل عنها كثير من المتجادلين اليوم في شأن قضية التراث والتجديد التي ظلمت كثيرا بأن حولها البعض إلى جدال عقيم وسفسطة لا معنى لها، وليت الذي لا يعلم يتعلّم، ويراجع نظره بإيجابية وواقعية إلى ما دونه العلماء.

فالإسلام لا يمنع أحدا من الفكر والاجتهاد وإبداء الرأي، شريطة أن يكون هذا الفكر والاجتهاد مصحوباً بالعلم العميق الذي يفرّق بين الاجتهاد وبين الفوضى والهدم.

إن تراثنا العلمي والفقهي والحديثي ثروة حضارية تستحق منا المحافظة عليها والاستفادة منها منهجيا ونحن نمضي في مسيرة التجديد، والمحافظة على ما بناه الأوائل هي المحافظة على هويتنا وتضييعه وهدمه تضييع للهوية.


* الأمين العام للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم