بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 أيار 2024 12:00ص كلمة حول انتشار ظاهرة التكفير بين شباب المسلمين

حجم الخط
أعطى المولى عزّ وجلّ كل إنسان الحرية حتى في الاعتقاد والفكر، وبالتالي أياً ما كان دينه أو اعتقاده، فممنوع على الكل الاعتداء عليه أو الإساءة إليه بناء على هذا الأمر، لأن الله تعالى قال في كتابه الكريم {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقال لكل الناس {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وقال {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} أي أن كل إنسان حرّ في اختيار عقيدته، وكل إنسان سيحاسبه الله تعالى على اختياره.
ولكن وبكل أسف انتشر في مجتمعاتنا فكرة باطلة يروَّج لها مفادها انعدام حرية العقيدة في الإسلام، والاستدلال على ذلك بقول الله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وبقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}، والآيات واضحة بلا شك، ولكن مفهوم البعض لها هو الباطل، لأن هذه الآيات المباركة وغيرها تتحدث عن الميزان الربّاني يوم حساب المخلوقين، وليس عن التعامل بين الناس في الحياة الدنيا، أما نحن كبشر مخلوقين فالميزان القائم بيننا في أي تعامل إنساني هو مبدأ الحقوق والواجبات.
فدورنا، نحن كمسلمين، أن نكون هداة لا قضاة، ودعاة لا جناة، وأن نقول للناس نحن نرى ونعتقد اعتقاداً جازما أن طريق الحق هو الإسلام، وندعو الناس إليه لا أن نجبرهم فإن أبوا نحاسبهم ونفتش في نواياهم ونسيء إليهم ونعتدي عليهم، ولذلك قال عزّ وجلّ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّـهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم}، بل وخاطب النبي فقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
فهذه الآيات وغيرها تصرّح لنا بوضوح أن لا وصاية لأحد على أحد في معتقده، وأن ليس للإسلام «وكلاء معتمدين» في الأرض ينصبون أنفسهم حكّاماً على البشر، ويرغمون الناس على الإيمان بهم، بل كل ما هو مطلوب منا كمسلمين أن نعمل بقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

فقدان البوصلة الدعوية

ولكن حين تُفقد البوصلة الدعوية، ويجتاح الفكر الشعبي الموروث الملوث بانحرافات نفسية وعقلية كبيرة، يصبح من السهل اتخاذ مصطلح الكفر ستارا لتحقيق مصلحة ما أو انتصار وهمي، فينفرط العقد الاجتماعي القائم على مبدأ الحقوق والواجبات التي أمرنا بها ديننا العظيم، وأبداً ليست هذه رسالة ودعوة الإسلام، فالله تعالى لم يخلقنا ليراقب كلّ واحد منا الآخر ويتصيّد أخطائه، ويبدأ في تشويه صورته وسمعته، ثم يبيح لنفسه ولأتباعه ولجماعته الاعتداء على كل آخر مخالف معنوياً أو مادياً.
قرأت لأحدهم ذات مرة كلاماً جاء فيه: «إنَّ محبَّة الكافر لذاته مع بغض فعله حرامٌ؛ لأن ذلك ضِدُّ ما دلّ عليه كتاب الله، وسُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، القاضيةُ بأنَّه تعالى لا يُحب الكافرين، وقد أمر ببغضهم، وإبداء العداوة لهم، والبراءة منهم، والفصلُ بين الفِعل والفَاعل في الُحكم كما أنه مُناقضٌ للشَّرعِ فهو مناقضٌ للعقل، فما يتعلق بالفعل من الذَّمِ والبُغض لاحقٌ بالفاعلِ إلّا أن يمنع من ذلك مانع معتبَرٌ شَرعاً، ويلزم من قال هذه المقالةَ أن يقول بجواز بغض المؤمن مع محبة فعله، وفي هذا من القبح والشناعة ما لا يَخفى..؟!»..
وهذا كلام منافٍ لصحيح الفكر الديني، وأوضح دليل على بطلانه ما جاء في نص الآية مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، في إشارة واضحة على أن النبي أحبّ من الناس من لم يؤمن بالإسلام..؟!
ثم كيف يسمح الدين نفسه للإنسان المسلم أن يتزوج امرأة من غير ملّته ومن غير عقيدته ومن غير دينه، ثم بعد انجاب الأطفال منها، يأمر الأبناء ببغض وكره وعداوة لأمهم، فقط لأنها مخالفة في العقيدة والدين..؟!
أين نحن إذن من قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}..؟!
وهنا أختم بما كتبه الشيخ محمد الغزالي حول هذه المسألة في كتابه النفيس (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين)، فقال: (إن الرغبة في تكفير الناس وانتقاص أقدارهم وترويج التهم حولهم، مرض نفسي بالغ الخبث، وأصحابه يتناولهم بلا ريب الوعيد الإلهي: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، والتصاق هؤلاء المرضى بالإسلام أو تصدّرهم في ميدانه لا يغني عنهم شيئا، فإنهم في الحقيقة غرباء عليه أو عقبات أمامه، أو غبش في مرآته، فمحمد - صلوات الله عليه - رفيق رحيم، وهؤلاء غلاظ قساة، ومحمد صلى الله عليه وسلم يحض على ستر العيوب، ويأخذ بأيدي العاثرين لينهضوا من كبوتهم، وهؤلاء يكشفون العيوب أو يختلقونها إن لم توجد، ثم ينتصبون - باسم الله - قضاة يقطعون الرقاب ويستبيحون الحقوق!، وليس للّه فيما يفعلون نصيب ولا لدينه مكان... إن الذي لا يحسن التنقيب في جنبات نفسه لاكتشاف عللها لا يصلح لا داعياً ولا مربّياً، والذي يحرص على اتهام الناس بالكفر والإغضاء عن جهادهم والشماتة في أخطائهم هو امرؤ مريض الفؤاد».

bahaasalam@yahoo.com