بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 آذار 2020 12:03ص كيف نتعامل مع البلاء والابتلاء؟

د. محمد المنسي د. محمد المنسي
حجم الخط
د. محمد المنسي*

إن نقطة البداية في إدراك التعامل الصحيح مع البلاء والابتلاء هو أن ندرك أن الابتلاء سُنَّة من السُنن وقانون من القوانين التي تحكم البشر في هذه الحياة، حيث مضت سُنَّة الله أن يمتحن عباده بالشر والخير، أي يختبرهم بما يكون ثقيلاً على نفوسهم من الألم والمرض والخوف والهزيمة.. كما يختبرهم بما يدخل السرور والسعادة من النعَم التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة من العيش.. ليتبيّن بهذه الامتحانات ماذا سيصنع البشر أو حسب التعبير القرآني: {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولا شك أن حسن العمل عند وقوع البلاء لا يخرج عن أحد أمرين:

- الصبر عند الشدائد والأزمات.

- والشكر عند النعم والمسرّات.

ولكي يكتمل معنى الاختبار كان من مقتضيات الابتلاء أن يكون أمر الناس في هذه الحياة قائماً على التفاوت والاختلاف في المواهب والقدرات والأرزاق والحظوظ، فهذا التفاوت يخلق الأجواء التنافسية التي تفيد الحياة والبشر أكثر مما لو كان الناس على قدم المساواة في كل شيء.

- إن تفسير ما يجري لنا في الحياة من خلال ثنائية البلاء/ والابتلاء يقدّم نظرة متفائلة للحياة، ويمنحنا القدرة على الصبر والتحمّل والتماسك أمام الشدائد بمختلف أنواعها.. بل إنه في أعلى الحالات تصبح الشدائد فرصة لاستخراج أفضل ما في البشر من إمكانات وقدرات لا تخرج عادة إلا عند وقوع الخطر وحصول الشدائد.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمنحنا ذلك التفسير الفرصة لإنقاذ النفس من الوقوع أو السقوط في آفة الطغيان والاستكبار والغرور بما بين أيدينا من أسباب النعم والقوة.. ومن ذلك نستخلص أن الإنسان لن يعيش بمعزل عن قانون الحياة، فإن كان في شدّة وأزمة فهو في حالة ابتلاء، وإن كان في سعة وبسط في النعيم فهو أيضاً في حالة ابتلاء.. وإذا خرج من الفقر إلى الغنى فهو مبتلي، وإذا خرج من الغنى إلى الفقر فهو مبتلي، وكذلك في الصحة والمرض والنصر والهزيمة والراحة والتعب وغير ذلك.

وهذا ما تؤيّده آيات القران الكريم حيث جاء في بعضها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فالإنسان مبتلي في كل أحواله وهذه نظرة جديدة على فكر البشر.. الذي كان يتجه قبل القرآن إلى القول بعبثية الحياة أو عبث الأقدار.

مواجهة البلاء والابتلاء

وعلى هذا فإذا كان البلاء والابتلاء سُنَّة (أي قانون ينطبق على جميع البشر) فإن مواجهته والتصدّي له يعتبر سُنَّة كذلك؛ إنطلاقاً من مبدأ أن السُنَّة الاجتماعية لا تواجه إلا سُنَّة أخرى مقابلة لها.. فالمرض سُنَّة من سنن الله والتداوي منه سُنَّة كذلك، فمن سلك مسلك التداوي شفي من المرض وفي الحديث: (تداووا عباد الله فما أنـزل الله من داء إلا جعل له دواء).. والفقر سُنَّة من سنن الله.. والخروج من هذه السُنَّة لا يكون إلا بسُنَّة العمل والإتقان، وهكذا في كل جوانب الحياة الاجتماعية. بل إنه حتى في الأمور الاعتقادية يكون التدافع والصراع بين قوى الحق وقوى الباطل أو الإيمان والكفر.. إذ يحاول جند الكفر أن يفرض نفسه وسلطانه.. فيتصدّى له جند الإيمان وتنشط قواه وتجتمع عناصره بسبب ضغط الكفر عليه.. وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}.

ومما يؤكد ذلك أيضا أنه حتى في داخل الجسم البشري تقوم أجهزة المناعة بالدفاع عن نفسها وعن الجسم عند دخول الجراثيم والفيروسات؛ حيث يبدأ القتال بينهما حتى يبقى الجسم قوياً قادراً على القيام بواجباته.

إن التدافع بين الناس هو جزء من الاختبار الإلهي للبشر، والتاريخ خير شاهد على ذلك؛ إذ قامت دول وممالك وسقطت أخرى بفعل السنن الاجتماعية..

وهذا يدعونا إلى القول بأن الخطاب الديني المعاصر ينبغي أن يركز على بناء عقلية المسلم المعاصر على أساس إدراك السُنن أو القوانين الحاكمة لجميع شؤون الحياة ومنها سُنَّة البلاء والابتلاء حتى يتربّى على مواجهة السُنَّة بالسُنَّة، والقانون بالقانون والبلاء ببلاء مضاد له والقوة بالقوة المضادة لها، وليس كما يحدث الآن من الدعوة إلى رفع الأيدي وأكف الضراعة فيما يعدّ من شؤون البشر ومسؤولياتهم، في جناية غريبة على العقل والدين والحياة..



 * أستاذ الشريعة في كلية دار العلوم - جامعة القاهرة