بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 كانون الثاني 2019 12:05ص لا تقنطوا من رحمة الله

حجم الخط
الشيخ يوسف جمعة سلامة*

قال الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}.
هذا نداء كريم من الرب البر الرحيم إلى عباده الذين فرطوا في جنبه، وأسرفوا على أنفسهم أن ينيبوا إليه، وأن يتراموا بالتوبة بين يديه، وأن لا يقنطوا من رحمته، ولا ييأسوا من عفوه ومنّته، فهو يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، ويتجاوز عن السيئات، ويقبل التوبة، ويعفو عن عباده وهو الغفور الرحيم.
فما أحرى العباد أن يعودوا إلى حظيرته القدسية، فيغسلوا بدموع الندم دنس الذنوب والخطايا والآثام... وما أحرى العبد المسلم بالمبادرة إلى التوبة، والإسراع بالفرار إلى الله عز وجل، والبعد عن المعاصي التي هي شؤم على الإنسان في الحياة الدنيا،وهلاك وخسران له في الحياة الآخرة.
وقد قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وقال تعالى أيضاً: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}.
وما أجدر العصاة والمسرفين بالرجوع إلى الله الغفور الرحيم، والإقبال عليه والوقوف بذلّ وانكسار بين يديه بعد تلك الغيبة الطويلة التي قضوها في مجاهل الإثم والفسوق والانحراف.
وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، وليعلم الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والذنوب، أن يأسهم من رحمة الله وعفوه طعن منهم في كرم الله العزيز الوهاب، لذا فهو ينهاهم عن اليأس والقنوط ويشجعهم على التوبة والإنابة، ويعدهم بحسن القبول وكمال العفو والمغفرة، «إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».
و لله درّ الإمام البوصيري رحمه الله حيث يقول:
يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت
إن الكبائر في الغفران كاللمم
التوبة كرم رباني
إن التوبة كرم الهي ومنحة من الله لعباده عرّفهم فيها كيفية الرجوع إليه إن بعدوا عنه، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب إذا عصوه كي يفروا إليه تائبين منيبين متطهرين.
فما أكرمه من إله، وما أرحمه بخلقه وعباده، يجابه الناس ربهم بالفسوق والعصيان، ويخالفون دينه، ويأتون ما نهى عنه حتى إذا تابوا وأنابوا، قبل الله توبتهم ومحا سيئاتهم وأحبهم ورفع درجاتهم : «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين».
إذاً المعنى الحقيقي للتوبة أن ينتقل المرء المسرف على نفسه من ظلمات الباطل والمعصية والهوى إلى نور الإيمان، وكمال الطاعة وعز التقوى، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}، ومن مقتضياتها هجر الذنوب أصلاً، وتوطين النفس على عدم العودة إلى المعاصي، والشعور بالخوف من الله عز وجل والندم على ما جنته الأيدي.
فليست التوبة قولاً باللسان، وإدعاء لا دليل عليه، ولكنها هجر الآثام وتطهير النفس من الأدران، واستشعار الألم والندم على ما كان فان من يحس ألم الذنوب ووخز المعاصي لا يقدم عليها.
إن يد الله عز وجل مبسوطة بالعفو والمغفرة لا تنقبض في ليل ولا نهار تنشد مذنباً أثقلته المعاصي يرجو الأوبة بعد طول الغيبة، ومسيئاً أسرف على نفسه يرجو  رحمة ربه وفاراً إلى مولاه يطلب حسب القبول.
قال  صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وإن من شروط صحة التوبة أن تكون والإنسان في صحة وعافية له أمل في الحياة ورغبة في البقاء، أما التوبة حين معاينة الموت واليأس من الحياة فمردودة على صاحبها غير مقبولة.
وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر» أي مالم تبلغ الروح الحلقوم.
قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}. 
التسويف خطر
إن الكثيرين اليوم يقطعون حياتهم خائضين في اللهو واللعب يرتكبون من الذنوب ما تمليه عليهم أهواؤهم  ويأتون من الخطايا ما يروق لنفوسهم ثم يسوفون ويقولون: سوف نتوب، وغداً نعمل الصالحات.
اسمعوا قول الرسول الأعظم  صلى الله عليه وسلم : «إن أكثر صياح أهل النار من التسويف،  يقولون يا أف لمسوف» فما هلك من هلك إلا بالتسويف فبادروا بالتوبة قبل أن تنقلبوا إلى دار الهوان والخيبة، وحاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن تناقشوا الحساب في الآخرة، فمن نوقش الحساب عذب.
إن قلب المؤمن نقي كالمرآة، فإذا أذنب ذنباً ألقيت فيه نكتة سوداء، وإن تاب محيت، وإن عاد إلى المعصية ولم يتب، تتابعت النكت حتى يسود القلب، فقلما تنفع فيه المواعظ والزواجر.
فرحم الله عبداً علم أن الموت يأتيه بغتة فاستعد له بصالح العمل والتوبة، وإذا أغواه الشيطان يوماً فارتكب خطيئة وإثماً سارع إلى الندم وأقلع عنه وتاب إلى ربه وكان ممن استثناهم الله عز وجل بقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما}.

 * خطيب المسجد الأقصى المبارك والنائب الأول لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس