تعتبر نعمة البصر من النِعَم الكبيرة التي حظيت بها الكائنات الحيّة، وحظي بها الإنسان أيضا، ويكفي للدلالة على عظم هذه النعمة أن تغمض عينيك لتعرف بالدليل القاطع نِعَم الله - الذي خلقك - عليك.
وهذه النعمة، مهما عظم شأنها... هناك منحة أكبر وأعظم منها، وهي منحة البصيرة... وكثير من الناس ينعمون بنعمة البصر. ولكنهم فاقدون لنعمة البصيرة، وإلى هذا كانت دلالة الآية الكريمة بقول الله تعالى في القرآن الكريم: إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور...
يروى أنه في أحد الأيام، أعجب المصلّون بكثرتهم في أحد المساجد، وكان الإمام أحمد ابن حنبل يرحمه الله موجودا، فقالوا له: تخيّل يا إمام كم عدد المصلّين..؟ فقال: لا أحد.. ومن هول المفاجأة لجوابه، قالوا له: هل أنت أعمى..؟! وكان ردّهم فيه قلّة أدب..! لكنه أجابهم رحمه الله:
الأعمى.. من يغمض عينيه عن أرملة أوجع رأسها حمل ثقيل..!
الأعمى.. من توجّه للقبلة، وأدار ظهره للأيتام والفقراء..!
الأعمى.. من سجد للّه، وتكبّر على عباده..!
الأعمى.. من كان في صف المصلّين الأول.. ولكنه غاب عن صفوف الجياع، وقول الحق..!
الأعمى.. من تصدّق يوما، وهو قادر أن يتصدّق دوما..!
الأعمى.. من صام عن الطعام، ولم يصم عن الحرام..!
الأعمى.. من طاف في البيت الحرام، ونسي أن يطوف حول فقراء يموتون كل يوم من شدة العوز..!
الأعمى.. من رفع الأذان، ولم يرفع أبويه..!
الأعمى.. من صلّى وصام، ثم غشّ في بيعه وشرائه..!
الأعمى.. من قام بين يدي الله، وقلبه يحمل حقدا، وكرها، وبغضا، واحتقارا، لإخوانه المسلمين..!
ويضيف رضي الله عنه:
الأعمى.. من كان هناك انفصام بين عبادته وأخلاقه ومعاملاته..!
الأعمى.. من صلّى وسجد وصام، وهو يناصر الظلمة والطغاة..!
الأعمى.. من صلّى وصام، ويداه ملطختان بدماء المسلمين..!
الأعمى.. من صلّى، ولم ينتفع بصلاته..!
الأعمى.. من أخذ من الدين بعضه، وترك بعضه..!
(فمن كان في هذه أعمى..! فهو في الآخرة أعمى، وأضلّ سبيلا)...
فانظر حولك سترى مجتمعا من العميان، كائنات من المسؤولين يتربعون في مواقع الرتب والمراتب... تتحرّك اجداثهم بفعل البصر الذي في وجوههم، ولكن عميت القلوب التي في الصدور... والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.