بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 أيلول 2023 12:00ص مولد النبي ودواعي الإحتفال بالمناسبة

حجم الخط
تفترق اليهودية والمسيحية والإسلام فيما تتفارق فيه بموضوع الإيمان بالأنبياء المرسلين. فبشارة ولادة المسيح آمن بها اليهود ولكنهم أنكروا تحقّق هذه البشارة في إبن السيدة مريم التي نفخ الله في بطنها من روحه بواسطة الملاك جبريل حين تهيّأ لها بشراً سويّاً. أنكر اليهود كون إبنها هو المسيح الموعود لديهم وما زالوا ينتظرون قدومه ويستعجلونه. بينما آمن به الذين سمّاهم الله «النصارى» بعد أن خاطبهم الله فيما لو كانوا يرتضون أن يكونوا أنصار الله، فأجاب الحواريون «نحن أنصار الله».
آمن الحواريون ومن اتبعوهم بالمسيح وشاطرهم المسلمون منذ نشأتهم بهذا الإيمان مع اختلاف في وجهة نظر الديانتين في تحديد طبيعته.
كذلك آمن المسلمون بالنبي محمد الخاتم الموعود وأرجعوا هذا الإيمان الى تصديقهم برسالة نبيهم وبما أوحي إليه في القرآن الكريم والى إشارات مدوّنة ومنصوص عليها في العهدين القديم والجديد. هذه النصوص أوّلها المسلمون بأنها إشارات لظهور نبي خاتم يخرج من جزيرة العرب حيث تكاثر أبناء إسماعيل واستوطنوا تلك البلاد منذ آلاف السنين. نطق الوحي في العهد القديم وفي سفر التثنية متحدثاً عن ثلاث إطلالات و«تجلّيات إلهية» تمثلت بمخاطبة الله موسى على أرض سيناء، وببشارة مريم بولادة ابن لها يخلق بقوة القدرة الإلهية الخلّاقة في شرقي القدس (سائير)، وبوحي من السماء يتنزّل تنزيلاُ على نبي خاتم وهو يتعبّد في جبال مكة (فاران) يأتي ليتمم رسالات الأنبياء الذين سبقوه. وفي العهد الجديد أوّل المسلمون بعض نصوص آياته التي تحدثت عن البشارة بهذا النبي، والتي يذكر فيها المسيح خبر رحيله وأنه سيأتي من بعده نبي آخر (ولكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم) باعتبار أن المعزّي في تفسيرها الإسلامي عند البعض هي ترجمة لكلمة الباراقليط اليونانية والتي تعني كثير الحمد.
وأياً تكن هذه الإشارات، فإن جزيرة العرب كانت تستعجل في حينها ولادة هذا النبي بعد أن تحوّلت في معظمها الى الوثنية مع استثناءات بوجود أقليات مسيحية ويهودية. فاتخذ العرب في ذلك الوقت ثلاثمائة وستين صنما يعبدونهم من دون الله أو مدّعين بأنهم يعبدونهم ليقرّبوهم الى الله زلفى. ولكنهم في حياتهم الاجتماعية لم يكن الله حاضراً فيما بينهم فكانوا يتقاتلون ويسبى بعضهم نساء بعض، ويدفنون بناتهم أحياء ويسرقون وينهبون. فكيف يكون هؤلاء من نسل إسماعيل وهو الذي بارك الله ذرية أبيه إبراهيم سواء أكانوا من أبناء إسحاق الذين ذخر وجودهم بوجود أنبياء كثر أرسوا قواعد التوحيد لديهم، أو من أبناء إسماعيل الذين تحوّلوا الى الوثنية؟ أليس إسماعيل من هذه الذرية المباركة؟
كان الشرق كله كما كتب جواد بولس في موسوعته عن شعوب الشرق الأدنى وحضاراته متلهف إلى البحث عن إله أوحد تكون له المكانة العظمى كما كانت لمردوخ إله بابل في زمن حمورابي، ولنبي الله موسى وعيسى، وهو نفس هذا الشرق الذي كرّس فيه الأنبياء عبادة الله الواحد الأحد الخالصة حيث يكون التوحيد بأصفى صورة من صوره: إلها واحداً سرمدياً صمداً. فكان لا بد أن يرسل الله نبياً يأتي من أبناء إسماعيل ليكمل الرسالات السابقة ويختتمها ويعيد إلى أبناء إسماعيل الإيمان بإله واحد غير متعدد يحمل في طي رسالته العدالة المفتقدة.
وتوالت الإشارات أخيراً الواحدة تلو الأخرى تنبّأ بقدوم هذا النبي وتشير الى أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى الله النبي الموعود من بني هاشم. فها هو عبد المطلب ابن هاشم يقدّم نذراً إلى الكعبة بالتضحية بابنه العاشر عبد الله ليكون ذبيحة خالصة لها وذلك تعبيرا عن شكره بإعادة حفر بئر زمزم الذي ردمته قبيلة جرهم، وقد أشار عليه أبناء مكة بالعدول عن ذلك ففداه بمائة من الأبل، فلقّب عبد الله بالذبيح الثاني باعتبار أن إسماعيل الذبيح الأول.

ولادة النبي

في عهد عبد الله بن عبد المطلب وبعد زواجه من آمنة بنت وهب، ولد النبي محمداً صبيحة يوم الإثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الأولى من عام الفيل على الأرجح وهو ما يقابله يوم العشرين أو الثاني وعشرين من شهر نيسان سنة 571 ميلادية، وكان قد توفى والده في رحلته للتجارة الى الشام. أثناء ولادته تقول أمه لمن حولها بأنها رأت نوراً أضاءت له قصور الشام، في حين أنه رافق لحظات ولادته إرهاصات تحمل خبر سقوط أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وأخرى تتحدث عن إخماد نار المجوس، وقد أخبر حسان بن ثابت بأنه سمع جماعة من اليهود تخبر بأنه في هذه الفترة سطع نجم أحمد النبي الموعود.
ولما ولدته آمنة أرسلت الى جدّه عبد المطلب تبشّره بحفيده فانطلق به إلى الكعبة وشكر الله مستبشراً بولادته واختار له إسماً لا عهد للعرب به فيما قبل فسماه محمد فهو محمد ابن عبد الله وهو محمد ابن الذبيحين إسماعيل وعبد الله، أفضل خلق الله وأحبهم إليه.
لإن مرّت على قصة مولد النبي خمسة عشر قرناً تقريباً، إلّا أن الجدال ما زال قائماً بين المسلمين يتجدد في كل مناسبة عن مشروعية الإحتفال بمولده. فمن افتراءات التعصب التي كتبت أسطرها في أقبية الظلام خرج من اعتاد على تتبّع البدع ليستنكر ويستكثر على المسلمين إظهار البهجة في المناسبات الدينية ليقول بأن الإسلام لا يعترف إلّا بعيدي الفطر والأضحى. فالإحتفالات بالمناسبات الدينية الأخرى وما يرافقها من عادات وتقاليد تستدعي لديهم تقطيب الجباه وشحذ الحناجر وتستوجب عليهم الإنقضاض عليها لمحاربتها تحت شعار مكافحة البدع وإلحاقه بمظاهر الشرك، وهذا ما جعل كثيراً من المسلمين ينسون ويهملون تماماً الإحتفال بذكرى ولادة نبيهم أو بذكرى رأس السنة الهجرية ويستبدلونه بتقليد إخوانهم المسيحيين باحتفالاتهم ووضع أشجار الميلاد المجيد في بيوتهم.
لمقاومة هذا القحط والجفاف الإحتفالي والاستعراضي في أعيادنا ومناسباتنا، لا بد من إعادة رونق إحتفالات المساجد بمناسبة المولد والإضافة إليها بإقامة الندوات والمحاضرات وإضاءة الفوانيس وتسيير المواكب الكشفية. ونظراً الى كوننا نعيش في مجتمعات تعددية منفتحة، فإن ذلك يتطلب منا أن نكون دائماً على أهبّة الإستعداد في مجال التنافس الحميد مع الطوائف الدينية الأخرى، فنحن نحتاج إلى رمزية تتناقلها الأجيال وتبعث في أطفالنا البهجة والشوق إلى ذكرى ولادة نبينا المجتبى، وتكون مناسبة ننتظر قدومها في كل سنة تتربّى عليها أجيالنا على محبة رسولنا الكريم وقراءة سيرته العطرة وفق أحدث تقنيات العلم الحديث، ومحطة أساسية متطورة ننقل فيها إلى العالم مقومات شخصية نبي السلام والمحبة والرحمة.
هذه الرمزية التي تفهمها المجتمعات المتعددة الطوائف والأديان قبل غيرها، ليست وثنية ولا جاهلية كما سيحلو للبعض تسميتها، وإنما هي حاجة تربوية ونفسية واجتماعية يؤكدها علماء التربية والنفس والاجتماع. ما الضير لو تزيّنت حاراتنا وبيوتنا في رأس السنة الهجرية والمولد برمزية النخلة العربية والغار الذي تغطّي بابه خيوط العنكبوت والحمام الراقد على مدخله، وبتهاليل موسيقية لـ «طلع البدر علينا» وبقصة المولد المقرؤة والمنشودة والمغنّاة والملحّنة. أليس في هذه الرمزية ما يجلب الفرحة لأطفالنا وللأسر الإسلامية في كافة أنحاء العالم؟!
فلتكن احتفالياتنا بذكرى ولادة نبينا كما تتوافق مع حضارة ورقيّ إسلامنا ومع وضعيتنا وخصوصيتنا كمجتمعات متعددة الأديان والطوائف ومنفتحة على اخواننا في الوطن ممن ينتمون الى الديانات الأخرى. لتصدح بيوتنا وحاراتنا بأنغام الأعياد والمناسبات الإسلامية ولنغنّي فرحين بمولد «أحمد» و بـ «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع».