بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 أيلول 2019 12:02ص هَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟

حجم الخط
تأمّل معي هذه الآية الكريمة «37» من سورة فاطر، حيث يقول ربنا - جلّ ثناؤه - {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ومعناه أن أهل النار - والعياذ بالله - حين علا صراخهم من شدّة العذاب سألوا الله أن يخرجهم منها لكي يعملوا صالحاً غير السيىء الذي عملوه، فاستحقوا به هذا العذاب فأجابهم الله عزّ وجلّ بأنه عمّرهم، العمر الذي كان فرصة للتذكّر فيه، وجاءهم من الله نذير، فضيّعوا العمر دون تذكّر، وكذّبوا رسولهم، فلا عود، وعليهم أن يذوقوا السوء بصدّهم عن ذكر الله، وتذكّر الإنسان في عمره معنى عظيم كبير، حيث صار العمر ظرفاً للتذكّر، وهناك فرق بين أن تتذكر عمرك وبين أن تتذكر ساعة من عمرك، صحيح أن البشر غير معصومين ووقوعهم في المعاصي وارد، لكن التذكّر ينتشلهم من تلك المعاصي إلى الطاعات بالتوبة النصوح، فبابها مفتوح ما عاشوا، والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، لكن الوقوف عند سر هذا التعبير مهم جداً لإصلاح الناس خصوصاً من تجرفهم تيارات الهوى إلى محيط الرذائل، فلا يخرجون منها إلا بعد إنقضاء الأنفاس وإستيفاء الآجال.

ولا أقول فقط إن هذا التذكّر وقف على تذكّر الآخرة من حيث صرف الناس عن زينة الحياة الدنيا، فالله - تعالى - يقول: {قل مَن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}، وإنما للتذكّر أبعاد أخرى إجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وكل ما من شأنه الارتقاء بحياة الفرد والأمة، فمن التذكّر أن يسعى الإنسان لتحسين عيشه، ورفاهية حياته، والتوسيع على أهله وعياله، بأن ينتهز صحته وشبابه فرصة لهذا، فكم ضيّع الناس أعمارهم التي فيها يسعون ويشقون، ويحصلون على رزق أوسع وعيش أرغد بعدم تذكّرهم أن الدنيا دار الأغيار، تراهم يقولون - وما أكثرهم - ما كنا ندري أن الأسعار سوف ترتفع، وأن هذه الأرض التي كان المتر منها يباع بمبلغ معين صارت يباع المتر منها بخمسة وبعشرة أضعاف.. ولو كنا ولو.. ولو...

ثم إن العلماء ذكروا جواز قول «لو» إظهاراً للندم على خير فات، وعزماً على تعويض هذا الخير الذي فات إن كان في العمر بقية، لأن التذكّر في العمر يقتضي ذلك الإصلاح، ومن ثم تبدو أهمية النظر في سر التعبير بـ «في» الذي يدلُّ على أصل معناها، وهو الظرفية، أي أن العمر كله ظرف للتذكّر، فإن كان من تعثّر جبره التذكر، أما أن ينسى الإنسان نفسه، ويغرق في النسيان حتى يفوته قطار كل شيء، فيعصره الندم حيث عجز بعد قدرة، وافتقر بعد غنى، أو لم يعد العدّة للقاء عدو ظالم أو لم يعمل حساب جائحة وكارثة وحادثة فهذا من العمى... والإسلام يعالج العمى.

د. مبروك عطية