بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آذار 2019 12:05ص ووصينا بالإنسان بالوالدين إحسانا

حجم الخط
بقلم د.محمد مختار جمعة*
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.     
من المعلوم أن بِرَّ الوالدين له شأن عظيم عند الله عز وجل، فهو من الأعمال الصالحة الجليلة والفروض الدينية الأكيدة التي شرعها الله سبحانه وتعالى وأوجب على عباده رعايتها والقيام بها، فهو يأتي في طليعة الأعمال الصالحة، وجملة الفروض التي يحبها الله عز وجل والتي يدخرها الإنسان لِغَده، كما جاء في الحديث (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)، واستأذنه آخر في الجهاد، فقال: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ:  فَالْزَمْهَا ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا).
 فأيّ حق لهذه الأم التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة تحت رِجْليها، فلن يستطيع أحدٌ دخول الجنة إلا عن طريق برِّه بأُمِّه، كما جعل صلى الله عليه وسلم برّ الوالد سبيلاً إلى وسط أبواب الجنة، كما جاء في الحديث: ( ‏الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ).

فضل بِرّ الوالدين
إن برَّ الوالدين والإحسان إليهما من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، كما رُوي  عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- قال : (سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:  الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ برُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:  الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ)، كما أن برَّ الوالدين  سبب لمرضاة الله سبحانه وتعالى،  فعنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ).
كما أنَّ من فضل برِّ الوالدين طول العمر  وزيادة الرزق والبركة فيهما، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه-، قَالَ : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ ، وَيُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).    
برّ الوالدين بعد الموت
 من المعلوم أن برّ الوالدين ليس مقصوراً على الحياة فقط، حيث إنه لا ينتهي مع الموت وإنما خيره يبقى متصلاً بفضل الأبناء الصالحين ، فقد ورد عَنْ أَبي أُسَيْد مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه-  قَالَ: (بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا, وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا»).
كما بَيَّن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه لو كان على أحدِ الوالدين دين، أو نذر، أو غير ذلك ، فقد أجاز صلى الله عليه وسلم للولد القيام بذلك، كما جاء في الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بالْوَفَاءِ»).  
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ، فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمُ يَرْضَوْنَ بالْيَسِيرِ، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبيهِ»).
أنت ومَالُكَ لأبيك
رُوي أن ولداً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه، وأنه يأخذ ماله، فدعا به، فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا، فسأله، فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قوي، وكان فقيراً وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل عليَّ بماله، فبكى رسول الله  صلى الله عليه وسلم، وقال: «ما من حجرٍ ولا مدرٍ يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومَالُكَ لأبيك، أنت ومَالُكَ لأبيك».
 إن المسلم الذي يكون بارًّا بوالديه مُحسناً إليهما، فإن الله سبحانه وتعالى سوف يرزقه أولاداً يكونون بارِّين به محسنين له، كما كان يفعل هو مع والديه، لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ).
عقوق الوالدين
لقد حذَّر رسولنا صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين وجعله من أكبر الكبائر، وقرنه بالشِّرك بالله سبحانه وتعالى، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال ثلاثاً: قَالَ: «الإِشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»..)، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى يُعَجِّل العقوبة في الدنيا لمن عقَّ والديه، وهذا بخلاف عقوبة الآخرة، كما جاء في الحديث: (كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ،  فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ).
 وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن عقوق الوالدين ولوْ بأقلّ الألفاظ ، فقال سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، يقول العلماء: لو وُجِدَتْ كلمة أقلَّ من كلمة {أُفٍّ} لنهى عنها ربنا سبحانه وتعالى وحذَّرنا منها.
إن حقوق الوالدين أمانة في أعناق الأبناء واجبة الأداء، ولا يمكن للأبناء أن يفوا والديهم حقهم مهما فعلوا وبذلوا ومهما ضحوا وقدموا، فكيف بأولئك العاقين الشاردين عن طريق الحق،  البعيدين عن الجادة، الويل لهؤلاء، لقد ضلوا ضلالاً مبيناً، وخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فرضى الله من رضى الوالدين، وسخطه من سخطهما.
فما أحوج المجتمعات البشرية إلى الوقوف على مبادئ الإسلام  القوية التي تشدّ من عزم الأسرة المسلمة أفراداً وجماعات، أبناء وبنات، فإنها عندما تتمسك بتلك المبادئ الإسلامية ستفوز برضوان من الله، وذلك هو الفوز العظيم.
أيها القارئ الكريم: فلنكن بَارِّين بوالدينا، لأن برَّ الوالدين ليس من الدين فقط ولكنه من الإنسانية أيضاً، ومن الوفاء والصلة الحسنة أن تُطيعهما وتُحسن إليهما كما رَبَّيَاك وَأَحْسَنَا إليك حتى كبرت، ولن توفيهما حقهما مهما عملت، لذلك يجب علينا أن نُرَدِّد دائماً قول الله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

* خطيب المسجد الأقصى والنائب الأول لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس