بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 نيسان 2023 12:34ص مسيرة متميّزة لنضالات المرأة اللبنانيّة

حجم الخط
د. مسعود ضاهر

اضطلعت المرأة اللبنانيّة بدورٍ بارزٍ في تطوّر قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في مختلف المقاطعات اللبنانيّة. ففي إمارة جبل لبنان، وفي مرحلة من المتصرفيّة، (المتصرفيّة نظام حكم أقرّته الدولة العثمانيّة وعُمل به من العام 1861 وحتّى العام 1918) بقي العمل في القطاع الزراعي، والعمل المنزلي، وبعض العمل الحِرفي على كاهل المرأة. وكان لها الدور الأساس في دعم الانتفاضات الشعبيّة التي عمّت جبل لبنان في القرن التاسع عشر ضدّ ضرائب قادة «النظام المقاطعجي». ونجحت العاميّات في حصول الفلّاحين على مكتسبات مهمّة جعلتهم في طليعة الفلّاحين الأحرار في بلاد الشام. وكان للمرأة اللبنانيّة إسهامها البارز في تطوّر قطاع الحرير، مثلاً، الذي أفضى إلى ولادة «بورجوازيّة الحرير» التي شكّلت نواة البرجوازيّة اللبنانيّة.
تركت الحرب العالميّة الأولى وتدابير «سفر برلك»، وموجات الجراد والمجاعة الكبرى، آثاراً سلبيّة كبيرة على أوضاع اللبنانيّين، فناضلت المرأة اللبنانيّة بصلابة قلّ نظيرها من أجل البقاء على قيد الحياة، وحماية أطفالها من الأمراض. ومع زيادة حدّة الانقسام الاجتماعي بعد الحرب، بقي الآلاف من العائلات اللبنانيّة من دون معيل من الذكور؛ فكان على المرأة اللبنانيّة أن تتحمّل المسؤوليّة بجدارة لإعالة جميع أفراد العائلة والقيام بأعمال كانت حكراً على ربّ العائلة.
نجحت المرأة اللبنانيّة في إنقاذ عائلتها وإيصال أبنائها نحو شاطىء الأمان؛ ما أكسبها نوعاً من الاستقلاليّة داخل النظام البطريركي الذي كان مسيطراً بقوّة، ما جعل عائلات لبنانيّة كثيرة بعد الحرب، من دون معيل سوى عمل الأمّ بعدما مات الزوج أو فُقد في ظروف الحرب. اختبرت المرأة آنذاك كلّ أشكال العمل المتاحة؛ فشاركت الميسورات منهنّ في أعمال الإغاثة، ومساعدة الأيتام والمُعوَزين والمنكوبين؛ في حين زادت أعباء المسؤوليّة العائليّة على كاهل العاملات في الزراعة والحصاد والحِرف التقليديّة وغيرها. كانت قلّة منهنّ قد تلقّت قسطاً من الثقافة في أرقى المدارس والجامعات العاملة في لبنان، ومارست العمل الصحافي أو الكتابة الأدبيّة، وفي الأعمال الفنيّة والمهنيّة.
مع ولادة لبنان الكبير أصبحت المرأة اللبنانيّة في موقع أفضل نسبيّاَ عمّا كانت عليه سابقاً. فبدأت تطالب بالمساواة التامّة بين الذكور والإناث في جميع المجالات، وأثبتت كفاءة عالية في مشاركتها النشطة في مختلف الأعمال التي كان يقوم بها الرجال. كانت تتوقّع من إدارة الانتداب الفرنسي إنصاف المرأة اللبنانيّة من الغبن المزمن الذي لحق بها. ومع أنّ إدارة الانتداب عملت لمصلحة الاحتكارات الفرنسيّة في الدرجة الأولى، إلّا أنّها قامت فعلاً بإصلاحات ضروريّة لإرساء دعائم دولة عصريّة. وطرحت النخب النسائيّة اللبنانيّة تساؤلات مشروعة: أين هو موقع المرأة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة؟ ولماذا تمّ تغييبها من مجلسَي الشيوخ والنوّاب؟ ولماذا لا يحقّ لها أن تتسلّم المناصب الإداريّة الكبرى في الدولة كالمحافظ، والقائمقام والمدير؟ لقد حُرمت حتّى من الوصول إلى رئاسة البلديّة أو وظيفة مختار. وكانت تُمنَع عنها أحياناً عضويّة المجالس البلديّة أو المجالس الاختياريّة.
وعلى الرّغم من المعاناة الكبيرة التي عاشتها المرأة اللبنانيّة في ظروف الحرب العالميّة الأولى، والتي أثبتت فيها كفاءة عالية في حماية وإعالة آلاف العائلات التي فقدت معيلها من الرجال، فإنّ دورها خارج المنزل بقي محدوداً. كما أنّ نسبة عالية من السياسيّين ورجال الدين، من مختلف الاتّجاهات والطوائف، كانت تُجمع على أنّ دور المرأة الأساسي يجب أن يبقى في المنزل، وليس في مراكز العمل والإنتاج. وكانت بعض الأوساط التقليديّة تبدي الكثير من التحفّظ على فكرة الاختلاط بين المرأة والرجل في العمل، وحتّى على مستوى الطلبة في المدرسة.
لكنّ الشركات الأجنبيّة العاملة في لبنان لعبت دوراً مهمّاً في إيجاد فرص عمل جديدة لآلاف العاملين والعاملات. وحاولت إدارة الانتداب تنشيط قطاع الحرير طوال عقد العشرينيّات وحتّى أواسط عقد الثلاثينيّات من القرن الماضي. كان هذا القطاع مزدهراً في السابق، وكانت قاعدته العمّالية تقوم أحياناً على العاملات أكثر من العمّال. وكان لهذا القطاع الفضل الأوّل في نشوء فئة العاملات اللواتي حصّلن أجوراً نقديّة وليس عينيّة، ما ساعد على تطوّر الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الأرياف اللبنانيّة.
مع ازدهار المدن اللبنانيّة الكبرى إبّان مرحلة ما بين الحربين العالميتين، برزت تبدّلات اجتماعيّة مهمّة أسهمت في تطوّر نضال المرأة اللبنانيّة، فتضاعف عدد سكّان بيروت تقريباً خلال تلك المرحلة. واجتذبت المدينة أعداداً كبيرة من الريفيّين اللبنانيّين، فاستقرّ قسمٌ منهم في ضواحيها إلى جانب فقراء الأرمن والأكراد وأقليّات أُخرى. وبدأت بيوت المدينة وأحياؤها تتّخذ مظهراً طبقيّاً واضحاً ما بين سكن الفقراء وقصور الأغنياء، بالإضافة إلى بدايات تشكّل أحياء الطبقات الوسطى. وأسهم النظام الاقتصادي الذي بُني في لبنان على قاعدة الليبراليّة والخدمات في تطوير عمل القوى المنتجة، وبشكلٍ خاصّ عمل المرأة اللبنانيّة؛ فبدأت تدخل بقوّة في عمليّة الإنتاج ونظام العمل المأجور، والانتقال من الأرياف إلى المدن، وتبلور التغيير التدريجي في السلوك والعادات ونمط العيش والسكن وتعليم الفتاة والتخفيف من قيود عادات الزواج والطلاق والإرث وغيرها. فأسّست لتغييرات جذريّة في المجتمع اللبناني خلال العقود اللاحقة.
كان تعليم الفتاة على كاهل الأهالي، فكان على اللبنانيّين تحمّل نفقات تعليم أبنائهم في مختلف مراحل التعليم، من الابتدائي حتّى الجامعة؛ وعلّم المتنوّرون منهم بناتهم تعليماً عالياً على نفقتهم الخاصّة أو بمساعدة من مؤسّسات مانحة. ما أسهم في ولادة جيل جديد من النساء المتعلّمات اللواتي انخرطن في سوق العمل على أساس دخل متجانس للرجل والمرأة معاً. كانت اللغة الفرنسيّة في عهد الانتداب بمثابة لغة رسميّة في لبنان إلى جانب العربيّة. فواجه أبناء وبنات الطبقات الدنيا والوسطى من اللبنانيّين حواجز إضافيّة حرمتهم من التعليم. واتّجه عمل المرأة بشكل أساسي نحو القطاع التربوي، والقطاع الصحّي، والإدارات الخاصّة والعامّة، وقطاع الخدمات، والعمل في الفنادق، ومراكز الهاتف. ثمّ توسّع مع بدايات عمل المرأة في الصحافة، والطباعة، والإعلام، والمهن الحرّة، وبرز منهنّ طبيبات، ومهندسات، ومحاميات، وكاتبات وفنّانات.

نساء رائدات

أسهم دخول المصانع الحديثة وتحديث بعض الصناعات القديمة في تدمير الكثير من الحِرف، ما زاد من عدد العاطلين عن العمل، وبخاصّة في صفوف النساء. وانتشر العمل المؤقت بأجور زهيدة على نطاق واسع في صفوف القوى العاملة النسائيّة. وتعرّض بعضهن لأقسى درجات الاستغلال والقهر الاجتماعي. وحُرمت النساء لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة من المشاركة في التنظيم النقابي، ولم يتعوّدن على الانخراط فيه. لكنّ القوى الطليعيّة في الحركة النقابيّة اللبنانيّة، وبشكلٍ خاصّ النقابي البارز فؤاد الشمالي، سارعت إلى إصدار سلسلة مهمّة من الدراسات التثقيفيّة والمقالات الصحافيّة للمطالبة بإنصاف العاملات، وإعطائهن الحقّ بالتنظيم النقابي، ومساواة المرأة بالرجل في الأجور وساعات العمل والعطل الأسبوعيّة والسنويّة المدفوعة الأجر، ورفع الظلم عنهنّ، ومنع التعرّض لكرامتهن في أثناء العمل وعدم تشغيل النساء في أعمال خطرة، ومنع تشغيل الأولاد منعاً باتّاً وإلزام الدولة بتأمين مدارس لهم، وغيرها من المواقف الجريئة. وتزايد بشكلٍ ملحوظٍ عددُ المدارس التي تهتمّ بتعليم الفتيات، ومنها مدارس خاصّة بالبنات وأخرى مختلطة. وتشجّع كثير من الأهالي على تعليم بناتهم لأسباب مختلفة، منها ما يمكن تفسيره بتغيّر نظرة الأهل للاعتراف بالحقّ الطبيعي للفتاة في أن تكون مساوية للصبيّ في العلم والعمل؛ ومنها ما له علاقة بالحاجة الماديّة للعمل؛ إذ باتت المدارس بحاجة ماسّة إلى مدرّسات، وبخاصّة إلى مَن يتقن لغةً أجنبيّة كالفرنسيّة والإنكليزيّة. وتزايدت حاجة المستشفيات إلى ممرّضات من ذوات الكفاءة اللغويّة والمهنيّة. ومنها ما ينبع من رغبة الفتيات بالتخلّص من العمل المرهق في المنزل والزراعة؛ فتوجّهن بحماسة بالغة نحو تحصيل العلم لإيجاد فرص عمل أفضل كانت تتزايد باستمرار مع التوسّع في نظام الخدمات والسياحة في لبنان.
شكّل عهد الانتداب مختبراً حقيقيّاً لكثير من النشاطات العمليّة والمنشورات النظريّة، والمؤتمرات النسويّة التي ارتبط ذكرها بأسماء عدد من الرائدات الكبيرات في الحركة النسائيّة اللبنانيّة. كان على قادة الحركة النسائيّة في لبنان أن تواجه تلك السياسة التعسفيّة بالردّ على التحدّي. فشهدت تلك السنوات ولادة عدد كبير من الجمعيّات النسائيّة التي غلب عليها طابع العمل الخيري في البداية، ثمّ ارتقت إلى مستوى تأسيس «الاتحاد النسائي في سوريا ولبنان» في العام 1924 على أيدي مجموعة من الرائدات أمثال لبيبة ثابت، وجوليا طعمة دمشقيّة، وسلمى صايغ، وابتهاج قدّورة، وثريا الحافظ، وإفلين بسترس وغيرهنّ.. وغيرهنّ.. وشاركن في نشاطات وطنيّة وقوميّة عربيّة. ومنهنّ مَن نشر دراسات علميّة قيّمة حول قضايا تحرّر المرأة. وتعزّز موقعهنّ النضالي في عقد الثلاثينيّات من القرن الماضي، حيث عقدن مؤتمرات محليّة وعربيّة. وشاركن في كثير من المؤتمرات الدوليّة، ورفعن شعارات وطنيّة وقوميّة عربيّة جامعة، أسهمت في رفع مستوى الوعي التحرّري لدى الحركة النسائيّة اللبنانيّة كحركة جندر لذاتها، وبذاتها، على الرّغم من أنّ المعوّقات الموضوعيّة، الذاتيّة والعامّة، كانت تمنع تبلور ذلك الوعي على أسس سليمة، وتحديداً من حيث التأثير النظري والإشعاع الثقافي والسجال السياسي. ونشرت الأديبة الجريئة نظيرة زين الدين كتابها «السفور والحجاب» في العام 1928، فحظي باهتمام لبناني وعربي واسع، وأعيد طبعه بعد أقلّ من عام، وترجم كليّاً، أو مقاطع منه، إلى لغات أوروبيّة. ثم نشرت كتابها الثاني «الفتاة والشيوخ» في بيروت في العام 1929.
في عهد الاستقلال تعزّز حضور المرأة اللبنانيّة تدريجاً، وعلى جميع المستويات، وبخاصّة في عالم الصحافة، والأدب، والتعليم. وزادت مشاركتها في المؤتمرات النسائيّة العربيّة والدوليّة، مع مشاركة محدودة في العمل السياسي والإداري والنقابي، ونشطت كثيراً في معركَتَي الاستقلال والجلاء. كانت مقولات الغرب التحرّرية في صلب مؤسّسات الدولة الحديثة النشأة في لبنان. فقد نصّ الدستور على المساواة التامّة بين اللبنانيّين في الحقوق والواجبات، بمعزل عن الجنس أو القوميّة أو الانتماء الطائفي. فنشطت الحركة النسائيّة لوضع تلك الموادّ الدستوريّة موضع التطبيق العملي من دون أن تحظى بنجاحٍ كبير.
ختاماً، رفعت المرأة اللبنانيّة راية النضال المتواصل لتحقيق مكاسب متدرّجة عبر شعارات مطلبيّة ووطنيّة ملحّة، منها المساواة بين اللبنانيّين في الحقوق والواجبات، والمساواة بين المرأة والرجل في مختلف المجالات، وحماية الطفولة، ومنع تشغيل الأطفال، والتعليم الإلزامي المجاني للذكور والإناث، ودخول المرأة سوق العمل وغيرها. وبرزت مناضلات رائدات من الحركة النسائيّة كان لهنّ الدور الأساس في الدفاع عن حقوق المرأة، واستقلال لبنان، وحماية الصناعة الوطنيّة، والمشاركة في عدد من المؤتمرات النسائيّة، العربيّة منها والدوليّة، لإيصال صوت المرأة عبر الصحافة ووسائل الإعلام. واضطلعت الصحافة اللبنانيّة بدورٍ أساسيّ في طرح قضايا المرأة الحياتيّة، وضرورة تعليم الفتاة، وحقّ المرأة في العمل والتوظيف، والأجر المساوي للعمل الواحد، وحقّ المرأة في الترشّح والانتخاب، والمشاركة في العمل السياسيّ وفي النشاطات الفنيّة؛ فتركت تلك المرحلة أثراً واضحاً في تطوّر حركة نسائيّة لبنانيّة متنوّرة في عهد الاستقلال. وكانت على صلة وثيقة بتطوّر نضالات المرأة العربيّة والأوروبيّة. ونجحت في استصدار قوانين ومراسيم جديدة كان لها أعمق الأثر في تطوّر الحركة النسائيّة في تاريخ لبنان الاجتماعي المعاصر.
-------------
* مؤرِّخ وباحِث من لبنان