كنا صغاراً نلهو ونلعب في دساكر ضيعتنا ياطر نعيش طفولتنا البريئة التي يعكر صفوها خوفنا الدائم من غدر العدو وقصفه في السبعينات، كنا نظن ان ضيعتنا صغيرة صغر احلامنا، البريئة، وفي وسط الضيعة تموضع بيت ارضي مؤلف من اربع غرف ودرج مكشوف يؤدي الى غرفة على السطح اختزنت الكثير من قصص وحكايا وأحداث مرت بها الضيعة. انه بيت الحلاق أبي انور قدوح، الحلاق شبه الوحيد في الضيعة، انها غرفة الحلاقة التي حفظتها ذاكرتي حيث كانت تأتي امي بي الى الحلاق ابي انور لقص شعر طفولتي الناعم إما لأنه طال او عقاباً على مشاغبة ما على طريقة قوات الردع العربية خلال فترة وجودها في لبنان.
ولكن الخوف الذي كان ينتابني كطفل يجلس على كرسي الحلاقة سرعان ما ينقلب الى انس واطمئنان عندما يحنو الحاج ابو انور بمقصه ومرجله ( مشطه) على شعورنا حنو الأب على ابنه فيداعبنا ويمازحنا ويحكي لنا حكايا الطفولة البريئة خلال حلق الرأس فيتمنى احدنا لو طال جلوسه على مقعد الحلاق ابي انور فيأنس بوداعة هذا الرجل الطيب.
وكم تعلمنا من حكاياه قيم الشجاعة والمروءة والشهامة، لقد كان حلاقاً ولكنه كان تربوياً بحق.
ومن ذاكرة الضيعة الجميلة ان غرفة الحلاقة هذه كانت تتحول مساءً الى سينما للعرض مجهزة بتلفاز الأبيض والأسود ذي الشاشة الكبيرة وكم كانت تزدحم بحشودنا «صالة العرض» لمشاهدة الصور المتحركة او الافلام الهادفة للصغار والتي يسمح بمشاهدتها الحاج ابو انور المراقب بحزم والموجه، ولا بأس إن ضاعف احدنا مدة المشاهدة فتتضاعف التسعيرة المتواضعة من 10 قروش الى ربع الليرة.
هكذا كانت غرفة ابي انور متنفس طفولتنا الوحيد للترويح عن النفس في زمن فرض علينا العدو الغادر ان نستيقظ من طفولتنا باكراً وان نحرم منها واعين إجرامه وخطورة تهديده واطماعه بجنوب الوطن.
هذا ما حفطته ذاكرتي عن رجل الشهامة والوداعة الطيب الذِكر والأنيس المقام الفقيد المرحوم «الحاج ابو انور قدوح» وأضيف اليه ما وعاه من يكبرني بعقد من السنين او اكثر عن ايام الزمن الجميل، زمن المد القومي العربي الناصري. عندما كان شباب الضيعة وبدافع الحس القومي العربي في ستينات القرن الماضي يحتشدون امام تلفاز ابي انور وتضيق بهم «غرفة المشاهدة» ليستمتعوا بمشاهدة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهو يلقي خطاباته القومية وامواج الشعب العربي من المحيط الى الخليج ترهف اسماعها صاغية لما يقوله الزعيم الذي كان قمراً في ليل امتنا الطويل. أتراك يا ابا انور كنت ايضاً وزير اعلام الضيعة ايام الزمن الجميل؟ فيتحول بيتك الى منبر من منابر المد القومي العربي. معك يا حاج ابا انور تربينا على حلم جميل بحجم وطن بل صار بفضل دماء الشهداء بحجم امة وانت الذي لم تكتفِ بما قدمت من جهاد اكبر في سبيل القضية المركزية بل قدمت واحداً من اولادك (الشهيد تيسير) شهيداً على طريق استعادة الكرامة الوطنية ودحر المحتل الصهيوني وعملائه عن بلادنا.
حاج ابا انور لقد اقعدك المرض حتى اسلمت الروح لبارئها صابراً محتسباً رحمك الله وطيّب ثراك يا صفحة من ذاكرة ياطر انطوت بكل اسى، رحمك الله ومن سبقك الى رحاب الله تعالى من جيلك جيل الشهامة والقيم والمروءة، وإنـّا لله وإنـّا إليه راجعون.
ياطر - محمود محمد سويدان
* كلمة ألقيت في ذكرى أسبوع الفقيد.