يميل زعماؤنا السياسيون إلى المهاترات السياسية، على عكس السياسيين في المعمورة الذين يدرسون المشاكل لتفاديها بأقل السبل وإثارة للشقاق. أما الزعماء عندنا فيتسلون بالمشاكل والغوص فيها وبإدامة الأزمات، لا بل أدمنوا عليها.
يصف أستاذنا الراحل، عالم الاجتماع فالح عبد الجبار، السياسي عندنا عموما، وصاحب القرار خصوصا، يصفه بأنه يتسلى بالغوص في المشاكل، بل بات إنتاج المشاكل بالجملة أو بالتتابع لديه فولكلورا. هكذا هو طيف صدام حسين، من مجابهة إلى أخرى، من سعي لتدمير هذا إلى تدمير ذاك، ومن حرب إلى أخرى، لكأنَّ العنف بات نوعا من الإدمان، كوكايين الحياة، أو هيرويين العيش.
يمكن وصف المهاترات السياسية باعتبارها أنموذجا لشعبوية خطاب الطبقة السياسية، فهذه الطبقة تسوق نفسها على أنها ـ وهي دون غيرها من بقية الجماهير ـ تملك الحنكة والخبرة والدراية في معرفة دهاليز السياسة، وما يخطط له الأعداء من مؤامرات. ولذلك، تجدها تقاتل على أكثر من جبهة، تارة تجدها تهاجم خصوها من السياسيين، وأخرى تجدها تهاجم دولا من الجوار الإقليمي أو دولا كبرى باعتبارها تملك مشروعا يستهدف العراق وشعبه. ويتم تسويق ذلك في خطاب سياسي مشحون بالعبارات الطائفية والقومية ضد الآخر الشريك بالوطن وتخوينه.
لا تبنى ولا تعمر الأوطان بوجود زعامات تتناحر فيما بينها في وسائل الإعلام، وتجلس على طاولة واحدة عندما يحين موعد تقاسم المناصب والحصص في مؤسسات الدولة
وتتعالى أصوات زعماء المهاترات السياسية في مواسم الانتخابات، وتكون البوصلة مفقودة بشأن التمايز بين الحلفاء والأعداء، إذ نعيش أجواء حربا باردة حتى بين القوى السياسية التي تدعي أنها تمثل مكوّنا أو طائفة. ولا يكاد يخلو حديثهم عن المتآمرين الذين أفشلوا مشاريعهم السياسية التي كان هدفها بناء دولة! وعن المنجزات والعمل بظروف صعبة وتحديات أمنية وسياسية لم تواجهها أي دولة أخرى في العالم! ويبدو أنهم لم يقرؤوا عن صدارة العراق لتصنيفات الدول الأكثر فشلا وفسادا، وإن الكثير من مدنه غير صالحة أو غير آمنة للعيش فيها.
قبيل فترة الانتخابات يقدم الزعماء أنفسهم بعناوين حُماة الطائفة أو المذهب أو القومية، ويكون هناك ما يشبه الاتفاق الضمني لتحشيد الجمهور واستغلاله من خلال المهاترات، وما إن تنتهي الانتخابات تجدهم يجلسون على طاولة واحدة للتفاوض بشأن تقاسم المناصب الحكومية. وهذا اللعبة يكون الجمهور شريكا فيها لأنها تتكرر في كل دورة انتخابية ولكنه لا يعاقب اللاعبين فيها على محاولتهم التلاعب فيه.
تمثّل المهاترات السياسية أنموذجا لخطاب سياسي مأزوم بالشخصنة، وتعبر عن محاولة اختزال الوطن والدولة بمزاج الأشخاص الذين تحولوا بفضل وصولوهم إلى السلطة أو عناوينهم الرمزية إلى قادة في بلد يعشق فيه الجمهور الزعامات والذوبان في أوصافهم ومقولاتهم من دون تقييم أفعالهم. ولذلك تكون أغلب مواضيع المهاترات السياسية محاولة استغفال الجمهور من خلال تشتيت أنظار الرأي العام بسجالات سياسية استعراضية عن القضايا الرئيسة والمصيرية التي تتعلق بحياة المواطن، وهنا يتبادل الزعماء الأدوار وحاشيتهم من الأتباع والانتهازيين في الترويج لمثل تلك المهاترات.
ويتحول الخطاب السياسي إلى نوع من المهاترات عندما يفتقد إلى المرجعية أو المبادئ السياسية والقانونية التي يُحتَكَم إليها في حلحلة الخلافات والنزاعات. ولذلك تجد الخلافات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، والخلافات بشأن الموازنة وإدارة الموارد، وتعيين القيادات العليا في الدولة، وأي محاولة لفرض هيبة الدولة وسيادة أحكام القانون...إلخ كلها تتحول مناسبة إلى خطابات وعنتريات غايتها تقزيم الدولة.
وفي مجتمعاتنا التي تعاني من التضخم المفرط بالسجالات السياسية، وغياب الدولة ومؤسساتها عن ممارسة السياسي، تكون المهاترات وسيلة لتضليل الجماهير والتعمية على الحقائق وتسويق الخلافات السياسية على أنها تعبر عن قضايا مصيرية لحقوق المكونات والطوائف والقوميات، ويتحول زعماء الأحزاب وتابعيهم إلى ضيوف دائمين في البرامج التلفزيون الحوارية.
عندما يتخلى البرلمانيون عن وظيفتهم بالرقابة والتشريع ويتحولون إلى ضيوف دائمين في البرامج الحوارية في الفضائيات، ويعبرون فيها عن قناعات زعمائهم، وتكون خلافاتهم عن توزيع الحصص في المناصب العليا، فهذا النموذج من المهاترات السياسية لا يوجد إلا في بلد مثل العراق.
عندما تكون المنظومة السياسية محكومة وفق رؤية المغانم فلا يمكن التعويل على هذه المنظومة أن تسلم قيادة البلد إلى من يملك مشروعا حقيقيا لبناء الدولة
وكل زعيم من زعماء المهاترات يريد أن يخبرنا بأنه يملك القدرة على حل جميع الأزمات في العراق، لكن المشكلة في الآخرين الذين يعرقلون مسيرته! وبالنتيجة أصبحت المهاترات السياسية واحدة من أهم معوقات وجود زعامة سياسية تؤهلها إلى أن تكون كاريزما وطنية. ولذلك لم تترك المهاترات رمزية وطنية إلا وحولتها إلى مصدر للجدل وحتى التسقيط السياسي؛ لأنها لا تؤدي إلا وظيفة واحدة فقط وهي تفرقة المجتمع وتمزيقه أو الإبقاء عليه ممزقا بكانتونات طائفية وقومية وحزبية.
والمهاترات السياسية تعبر عن نوع من الانفصام بين الزعامات والجمهور، باستثناء جمهور الأحزاب السياسية، وإن أغلب الخطابات يمكن وصفها بأنها عبارة عن توهم بوجود معركة بين الحق والباطل يقودها زعماء الأحزاب، وإن القدر قد اختارهم ليقودوا هذه المعارك التي تعبر عن شعارات وأيديولوجيات لا علاقة لها بمعاناة المواطن ومتطلباته معيشته، لذلك تجدهم يرفعون شعار المقاومة وهم بيدهم مقاليد السلطة والحكم!
لا تبنى ولا تعمر الأوطان بوجود زعامات تتناحر فيما بينها في وسائل الإعلام، وتجلس على طاولة واحدة عندما يحين موعد تقاسم المناصب والحصص في مؤسسات الدولة. وعندما تكون المنظومة السياسية محكومة وفق رؤية المغانم فلا يمكن التعويل على هذه المنظومة أن تسلم قيادة البلد إلى من يملك مشروعا حقيقيا لبناء الدولة، لأنهم يدركون تماما أن وجود الدولة لا يمكن أن يجمع المتناقضات بين مصالح مافيات حزبية وسلطوية وبين تحكيم القانون في إدارة أمور المجتمع.