بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

14 تشرين الأول 2020 07:32ص النخب والاحتجاجات في العراق: تقييم المواقف والأدوار

حجم الخط

بعد مرور عام على احتجاجات تشرين الأول في العراق، أعتقد بأنها المناسبة الأولى منذ تغيير النظام السياسي في العراق بعد 2003 التي استذكرها كثيرٌ من العراقيين بالاحتفاء والإشادة، ولا أجانب الصوابَ عندما أعتبرُها مناسبة وطنية، إذا ما اعتمدنا التفاعل مع الذكرى السنوية الأولى على انطلاقها. إذ باتت دلالة هذا اليوم ترتبط بشعار "نريد وطن" وهو شعار أطلقَه جيل شبابيٌ عَــبَّرَ عن حضوره الفاعل والمؤثر في المجال العام بعد أن اختزلته إرادة الأحزاب المهيمنة على السلطة بعناوينها الطائفية والقوميّة.

رغم ذلك، عامٌ كاملٌ يمرُّ على احتجاجات أكتوبر يجب ألّا يكون استحضاره فقط للاحتفاء والإشادة، وإنما يحتاج منا قراءة موضوعية لما حدث وما تَحقَق، ولعلَّ التركيز على مواقف النخب الثقافية والأكاديمية من حركة الاحتجاجات يجب أن يكون له الأولوية. فأحداث أكتوبر من العام الماضي لم تعد ذكرى للاحتفال وإنما هي محطّة تاريخية فاصلة ومهمة في تاريخ العراقي السياسي المعاصر.

وفي الأحداث السياسية الكبرى التي يمرُّ بها أيّ بلد تكون مواقف النخب الثقافية هي المِرآة العاكسة للمواقف الاجتماعية، والتي يعتمدها المؤرخُ في تسجيل تلك الأحداث وقراءتها. ولتقييم حركة احتجاجات أكتوبر في العراق فإنه في البداية يجب ألا ينحصر بما تحقق من مطالبها السياسية، وإنما يجب أن يكون تقييما من خلال الوقوف عند التحولات التي أحدثتها في مفاهيمنا ورؤانا للعلاقة بين المجتمع والسُّلطة. وتقييم مشاركة النخب بعناوينها الثقافية والأكاديمية في رسم ملامح التغيير الذي سعت إليه الاحتجاجات، وسعيها إلى عقلنة مطالب المحتجّين بالتأكيد على ضرورة أن تكون الأولوية لبناء دولة المؤسسات وترسيخ ممارسة الحريّات والحقوق الديمقراطية.

إذ غالبا ما تتعامل النخبُ في العراق مع الأحداث السياسية بثلاث مواقف: الأول هو الاستلاب السياسي، إذ تشعر بأنها مستلبة الإرادة ولا يمكنها أن تؤثر بتطورات الأحداث ولا تتحكّم بتوجيه الرأي العام فيها. والثاني هو موقف الاغتراب السياسي والذي تعتقد فيه بأنها ليست من يصنع ويحرّك الأحداث والمواقف السياسية، وأن كل من الجمهور والسلطة لا يستمعان ولا يتأثران بمواقف ورؤية النخب. أما المواقف الانتهازية فهي ثالث المواقف التي تعبّر عن توجهات النخب من القضايا السياسية، وتسعى من خلالها إلى التقرب من أحزاب السلطة والحكومة وتكون متماهيةً مع مواقفهما أو تسعى لتبريرها، والغاية من ذلك الحصول على منصب سياسي أو إداري في مؤسسات الدولة.

في فترة ما بعد احتجاجات أكتوبر لم تختلف هذه المواقفُ كثيرا، بل أن الاحتجاجات كانت كاشفة لتلك المواقف الثلاث، لكنّها ـ أي حركة الاحتجاج ـ قدمت أنموذجا نخبويا متميزا من أكاديميين وصحفيين وأدباء وفنانين كان لهم حضور فاعل ومؤثر في ساحات التظاهر، وكانت كتاباتهم ومنشوراتهم تعبر عن "مثقف الموقف" الملتزم بقضايا شعبه وجمهوره. وصف هشام شرابي هذه الفئة من المثقفين بـ"الملتزمين" إذ يتوفر لدى هؤلاء الوعي الكامل مع الممارسة الكاملة، ولا يمكن التفريق بين حياتهم الشخصية والعامة ويمثلون الطليعة المثقفة التي يقع التغيير الاجتماعي على عاتقها، ولا ينتمون إلى طبقة واحدة، وإنما الذي يجمعهم هو الوعي الكامل لقضاياهم والممارسة الواحدة.

في المقابل، كانت بعض المواقف النخبوية تتماهى مع خطاب السلطة وأحزابها، على أمل أن تكون حاضرة في خياراتهم عندما تتم إعادة توزيع المناصب، وهذا ما حدث فعلا في حكومة الكاظمي عندما تحوَّلت مواقف بعض النخب من التشكيك والطعن بحركة الاحتجاجات إلى تبنيها والدفاع عنها عندما تم طرح أسمائهم للمناصب الوزارية، ولذلك مثلما كان حضور "النخبوي الملتزم" فاعلا ومؤثرا بين الجمهور، كان حضور "النخبوي الانتهازي" له حظوظ عالية في أروقة قصور أصحاب السلطة.

المأزق النخبوي كان واضحا وجليا لدى البعض، فثمّة فئة لا تزال تريدها ثورة يقودها مفكرون وفلاسفة، متجاهلين واقع عالَمنا المعاصر الذي تتحكم فيه وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من كتابات المفكرين والفلاسفة. والبعض الآخر حاول تجاهل مغازلة السلطة للنخب بترشيح بعض الشخصيات للمناصب الوزارية واعتبرها نوعا من محاولة تصحيح العلاقة بين الحكومة والمثقفين. لكنهم تجاهلوا بأن منطق السلطة واحد في التعاطي مع المثقفين، فهي تقرّب المثقفين الذين لا يتطرقون إلى أمور تتناقض جوهريا مع التوجه الاجتماعي ــ والسياسي للسلطة القائمة، والذين يهتمون بطرح الحلول الجزئية والتجميلية التي تخدم السلطة.

ما نحتاجه في هذه الفترة، التي يمكن أن نعتبرها فرصة لتصحيح مسار التحوّل الديمقراطي في العراق بعد أن اختصرت الأوليغارشيات السياسية ممارسة الديمقراطية في الانتخابات فقط، هو أن يكون هناك دور حقيقي للنخب في التحشيد لمعركة استعادة الدولة عن طريق تنظيم المشاركة السياسية وجعلها هي الفيصل الحقيقي في السير نحو مشروع إصلاح النظام السياسي. وعليها أيضا إعادة تقييم موقفها من الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التي تم الترويج لها قبيل انتخابات 2018، والتي نتج عنها تكريس هيمنة أحزاب السلطة وتزايد النفوذ السياسي للجماعات التي كانت تعمل بعناوين مسلحة.

ومن ثمَّ، معادلةُ تغيير الواقع لم تعد من مهام النُّخب، بل هي مهمة الجماهير. صحيح أن المعادلة صعبة، فما بين صعود الشعبوية وبين الإيمان بدور الجماهير في إحداث التغيير، تبدو مهمة النخب في عَقلنة المَطالِب صعبةٌ للغاية. لكن قد يمثّل هذا التغيير في المعادلة فرصةً حقيقةً لإعادة النظر بدور النخب وعلاقتها مع الجمهور.

فبدلا من أن توجه النخب أنظارَها نحو الحكومة وأحزاب السلطة لإصلاح النظام السياسي، وهو مطلب بات معقدا وصعبا للغالية في ظلّ هيمنة منظومة الخراب والفساد والفشل على النظام السياسي وإدارة مؤسسات الدولة، فإن الخطوة العملية الآن والتي نحتاج إليها في الفترة القادمة هي تمتين العلاقة مع الجمهور. وهذا يحتاج إلى تجاوز "أوهام النخبة" ـ كما يصفها المفكر علي حَرب ـ التي يعيش المثقفُ بظلالها، ويسعى من خلالها إلى تنصيب نفسه وصيا على الحرية والثورة أو قائدا للمجتمع والأمة. فبقدر اعتقاده بأنه يقود المجتمع قد تهمّش دورَه.

المصدر: الحرة