بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

19 آب 2020 07:20ص من لا يكون قويا في بغداد فلا يراهن على واشنطن

حجم الخط

يشترك الكثير من العراقيين بتصور أن الولايات المتحدة الأميركية ليس لديها شغل شاغل سوى العراق وما تجري فيه من أحداث، ولا يختلف في ذلك بعض الأكاديميين والسياسيين وعامة الجمهور، إلا بقدر معين يتعلق بمدى تحكم نظرية المؤامرة في تقييم المواقف والأحداث السياسية.

قبل أربع سنوات زار جامعة الكوفة بول سالم ورند سليم الباحثان في معهد الشرق الأوسط بواشنطن Middle East Institute والتقوا نخبة من الأكاديميين، وكان محور المداخلات يدور حول تخلي الولايات المتحدة الأميركية عن دعم العراق وتحميلها المسؤولية عن كل أزماته السياسية والأمنية والاقتصادية وسعيها إلى تقسيمه!

رد بول سالم على تلك المدخلات بقول مختصر: "مشكلتكم تعتقدون بأن الرئيس الأميركي ينام ليله قلقا وخائفا من أن يستيقظ الفجر على خبر تقسيم العراق، وإذا تقسَّم العراق هل ستكون كركوك من حصة الكرد أم العرب؟ الإدارة الأميركية لديها الكثير من الملفات الداخلية والتنافس بين القوى الكبرى التي تحتل الأولية باهتماماتها أكثر من التفاصيل الصغيرة في العراق والتي تعتقدون أنها مهمة وخطيرة بالنسبة إليكم".

أتذكر هذا اللقاء اليوم، وأنا أقرأ تصريحات إعلامية ومنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى البيت الأبيض ولقاءه الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فالكاظمي لديه فريق إعلامي يحاول تصويره بأنه منقذ العراق! ويجري التركيز على أنه رئيس الوزراء المقرَّب من أميركا، والذي سيقف بوجه التدخلات الإيرانية. كما جرى تسويق ذلك عبر منصات فيسبوك وتويتر من قبل أصدقائه الإعلاميين والسياسيين.

وقد جرى تصوير زيارته الأخيرة إلى طهران ولقاءه بالمرشد الأعلى علي خامنئي بأنها كانت على مستوى الندية وليس التبعية. بيد أن المتابع للتصريحات وما جرى نقله عن اللقاءات الرسمية، بإمكانه أن يرى بأن الإيرانيين كانوا يعرفون ما يريدونه، إذ تحدثوا بلغة الأرقام عن رغبتهم بزيادة التبادل التجاري، وأعلنوا عن رسائلهم الصريحة بشأن الموقف من حادثة المطار، كما ورد على لسان المرشد الأعلى. في قبال تصريحات إنشائية وخطابية طغت على أحاديث السيد الكاظمي.

وحديث مستشار الكاظمي عن رمزية "العباءة النجفية" هدية الكاظمي إلى خامنئي، ناهيك عن كونه ثرثرة لا تتضمن دلالة سياسية ولا تاريخية، لكنّه يعطي انطباعا يفيد بأن الكاظمي لم تكن لديه خارطة طريق واضحة لإعادة رسم حدود العلاقة بين طهران وبغداد، وإنما يحاول تضخيم جزئيات معيّنة على أنها تفاصيل تحدث انعطافة في العلاقات بين البلدَين.

لا يمكن بناء تصوّر متكامل عن الملفّات التي ستبحثها زيارة الكاظمي إلى واشنطن، فثمّة كثير من الملفات العالقة، إذ تقف على رأسها قضية العلاقة بين البلدين: هل هي علاقة حلفاء استراتيجيين أم أصدقاء؟ فمواقف الكتل السياسية متباينة بين من يعتبرها صديق، وآخر حليف استراتيجي، وثالث يتماهى مع مقولة "أميركا الشيطان الأكبر".

تناقضات المواقف السياسية من العلاقة مع الولايات المتحدة قد تكون هي الأكثر وضوحا؛ أما رؤية الكاظمي وقدرته على تحويلها إلى واقعٍ يحكم العلاقة بين البلدَين غير واضحة. ويدرك الكاظمي تماما أن القوى السياسية لا تجتمع على مفهوم محدد "لمصلحة العراق" ومن ثم لن تكون له ظهيرا في أي اتفاق سياسي أو اقتصادي أو عسكري يترتب على زيارته المرتقبة.

وبعد مرور 100 يوم من عمر حكومة الكاظمي، بات واضحا بأن هذه الحكومة لا تختلف عن الحكومات السابقة سوى التغيير برئيس وزرائها الذي جاء من خارج منظومة الانتماء للأحزاب السياسية؛ عدا ذلك لم تعمل على تغيير نمط إدارة الدولة، وأنها عاجزة حتى هذه اللحظة عن بناء ركائز جسور الثقة بين المواطن والحكومة. فعبارات "حصر السلاح بيد الدولة" و"الحفاظ على سيادة العراق" و"محاسبة من قتل المتظاهرين" لم تكن أكثر من شعارات، تثبت حكومة الكاظمي يوما بعد آخر عجزها عن تحويل هذه الشعارات إلى واقع.

قد تكمن مشكلة الكاظمي في محاولته البقاء في برزخ التوازن: بين ما يريده الجمهور وتحقيق رغبات ومصالح الطبقة السياسية من جانب، ومن جانب آخر تأجيل الصدام مع القوى اللادولتية التي تسعى إلى إحراج حكومته وإضعافها. ولحدّ الآن، كل تنازل يقدمه الكاظمي للطبقة السياسية ينتج عنه ضعف موقف الدولة، وخسارة رصيده بين الجمهور. يتعامل الكاظمي مع فرقاء سياسيين يسعون إلى إبقاء حكومته ضعيفة وغير قادرة على فرض هيبة الدولة، وبالمقابل لا يمكن لإدارة البيت الأبيض أن تثق وتساند حكومة ضعيفة.

ويدرك الكاظمي أن الولايات المتحدة الأميركية ليست منظمة إغاثة لمساعدة الدول التي تواجه أزمات، فهي دولة تعتمد مبدأ المصلحة أولا، ولن تقبل بأن يكون العراق خاصرتها الرخوة في منطقة الشرق الأوسط. وفي فترة التحشيد والتنافس على الانتخابات الرئاسية لن تسمح الولايات المتحدة بأن يكون العراق محطة إرسال رسائل لإحراج إدارة الرئيس ترامب. ومن ثم، ذهاب الكاظمي لأميركا من دون رؤية لكيفية مساعدة واشنطن لبغداد، ومن دون خطوات علمية في محاربة الفساد ومواجهة الجماعات المسلحة، سوف لا يكون سوى لقاء بروتوكولي لن يعود بالنفع لا للعراق ولا لأميركا.

إن اقتراب موعد الانتخابات الأميركية يجعل التعويل على حسم كثيرٍ من الملفات بين العراق والولايات المتحدة قراءة غير موضوعية. ولا يمكن التماهي مع التسويق الإعلامي لحكومة الكاظمي بأن الزيارة ستكون من أولوياتها حسم ملف الحوار الاستراتيجي بين العراق وأميركا. ففي حال فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية بالتأكيد سيكمل ما بدأه من سياسات تجاه إيران، ولن يقبل بأن يكون العراق ساحة لإرسال رسائل التهديد للتواجد الأميركي في العراق، أما في وصل جو بادين إلى البيت الأبيض فهو لديه رؤية خاصة لإدارة الملف العراقي. وبالتأكيد لن تكون حكومة الكاظمي المعنية بتحديد واقع ومستقبل العلاقة مع الأميركيين، في حال التزَمَت بموعد الانتخابات الذي حددته في الشهر السادس من العام القادم.

لا يمكن لدولة كبرى مثل الولايات المتحدة القبول بالشراكة الاستراتيجية مع الحكومات الضعيفة حتى وإن كانت مصالحها تفرض تلك الشراكة، ولا يمكن أن تكون قويا وتتحدث بعنوان رئيس حكومة في بلد تعلو فيه سلطة القوى الموازية للدولة وتصادر الكثير من وظائفها. فحكومة ضعيفة ودولة هشّة هي جنة المافيات التي تملك المال والسلاح، والتي تبعث رسائلها عن طريقة الاغتيالات لكل من يعارضها بالصوت والكلمة. وأخيرا إذا لم يكن للحكومة منجَزا سياسيا واقتصاديا وأمنيا في بغداد، فلا ينبغي لها أن تعوّل على واشنطن.

 
المصدر: الحرة