بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

5 تموز 2020 08:33ص يا لعار البشرية.. جوعٌ في بلاد الشام وفي القرن الواحد والعشرين!

حجم الخط
كثيرة هي الأفلام الوثائقية التي تحدثت عن خوسيه موخيكا، أفقر رئيس في العالم، الإنسان ورجل الدولة الذي عاش وما يزال، زاهدا ومتقشفا في حياته العادية، وخلال فترات استلامه لمناصب عليا مختلفة، كان آخرها رئاسته للأورغواي بين عامي 2010 ـ 2015، وتبرعه بتسعين في المئة من راتبه الزهيد للجمعيات الخيرية، وعرضه شتاء 2014 فتح أبواب قصره الرئاسي لإيواء المشردين.

في الفيلم الوثائقي/ Human /2015، للمخرج الفرنسي يان آرثوس برتراند، الذي يتمحور حول قصص تغوص في جوهر معنى الإنسانية، يطل علينا موخيكا يإطلالته المؤثرة، مختتما الفيلم بخلاصة رؤيته وفلسفته للحياة، وهي فلسفة تبلورت كما يقول خلال وجوده في زنزانة انفرادية لعشر سنوات، تفسر معنى السعادة الداخلية للإنسان عبر امتلاك القليل مما يحتاجه، "ضمن مجتمع استهلاكي اخترعته البشرية يطمح للنمو إلى ما لا نهاية، وتبديد الوقت والحياة والمال لأجل اقتناء جبل من الاحتياجات الاستهلاكية غير الضرورية"، وهي ليست دعوة للفقر أو امتداحه كما يشدد موخيكا، إنما دعوة للاعتدال من أجل تحرير النفس.

في عصرنا السياسي الحديث، لم يسبق موخيكا في تقشفه وإنسانيته هذه إلا العظيم المهاتما غاندي، اللذين تُستحضَر تجربتيهما اليوم أكثر من أي وقت مضى، في مجابهة الفساد، والاستبداد السياسي أو المعيشي والاقتصادي، ويستَلهمان بقوة في ظل الظروف الكارثية التي تعيشها العديد من شعوب المعمورة، ومن أبرزها شعوب دول مثل لبنان وسوريا، اللتين لا تتوقف التقارير الدولية اليومية عن التحذير من مجاعة ستطال شعبيهما خلال أشهر قادمة، مع توقعات أن تكون السنوات الثلاث التالية، في أقل تقدير، أكثر قتامة.

لا مبرر لإعادة تكرار أو استجرار الأسباب المعروفة، لكن يمكن التفكير في البدء بحلول انقاذية قبل استفحال النتائج، حلول يبتدئ بتطبيقها من أعلى المستويات، يتشارك بها الأفراد، معا، عبر التحلي بروح المسؤولية الوطنية العالية والمصلحة العامة، لتفادي حدوث سلسلة لا منتهية من الكوارث التي ستتولد عن الجوع، الذي بدأت الناس تتداعى نفسيا ومعنويا، بل وتصاب بأمراض عضال أو تفكر بالانتحار، لمجرد الحديث أو التلويح باحتمالية حدوثه، رغم أنه تسلل فعليا كعقرب، يقرص يوميا فئات متزايدة من الضحايا.

إعلان حالة طوارئ لتقشف عام، أول الحلول، ويبتدئ بالرواتب العالية، وإلغاء كافة المصاريف غير الضرورية الحكومية وغير الحكومية، وتأجيل ما يمكن تأجيله من المشاريع غير الحيوية، وتحويل هذه الأموال لصالح قضايا مفتاحية، من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر، استيراد الدولة للقمح وتوزيع الخبز مجانا جنبا إلى جنب مجانية الدواء والاستشفاء، وبحسب رأي لخبير اقتصادي غير رسمي، سيؤدي دعم أسعار العلف، إلى انخفاض واضح وميسر في سلسلة من المواد الغذائية الأساسية، مثل اللحوم والبيض والحليب، وتأثير انخفاضها اللاحق على بعض الصناعات التي يمكن أن يستفاد من تصديرها، مثل الجلود والصوف.

التقشف في قطاع الكهرباء فيما يخص إنارة الشوارع والمنشآت الحكومية والعامة والخاصة، وإحداث تغيير في أوقات العمل للاستفادة من الإنارة الطبيعية، ومكافحة الهدر، وتخصيص الفائض كاحتياطي استراتيجي للأوقات المناخية الصعبة صيفا وشتاء. وإيقاف استيراد الكماليات، ودعم البدائل والاكتفاء الذاتي، والبدء بشكل حقيقي، بضرورة تعميم سلوكيات اجتماعية ومعيشية كنهج جديد للحياة، يعتمد على أقل ما يمكن من التكلفة التي تخص الملبس والمشرب ورفاهيات السكن، وتوعية الأطفال بصعوبة المرحلة وإمكانية تجاوزها، والتركيز على أولوية الغذاء من أجل البقاء، ولو في حدوده الدنيا.

هذه الأمثلة، جزء يسير من الحلول الانقاذية التي لا يعوز المخلصين والصادقين التفكير بها أو تطبيقها، لكنها لن تكون فعالة فيما لو تقيد فيها طرف على حساب طرف آخر، ولن ينجو أحد بمفرده، ما لم تتوفر القناعة التامة بأن الخلاص في مثل هذه الأوقات، مشترك وجماعي، الميسور يدعم المعدم، والمشاركة في كل شيء أساس وركيزة في المحن، كي لا يأتي وقت يقتل فيه المعدم والجائع كل من يشم رائحة طعام تفوح من مطبخه، أو يأكل الانسان لحما بشريا بشكل حقيقي وليس مجازيا، بحسب ما جاء في التقرير المرعب الذي نشرته "الحرة" قبل أيام عن المجاعة اللبنانية في جبل لبنان بداية القرن العشرين.

في سياق الحديث عن الجوع، يتذكر المرء خبرة وذاكرة الأجداد المريرة، ويتذكر تلك الأيام العسيرة التي مر بها المحاصرون المدنيون في عدد من المناطق السورية قبل سنوات قليلة، واضطروا فيها إلى التهام أوراق الأشجار وحشائش الأرض من أجل البقاء، والاستفادة من خبراتهم في كيفية التحايل على الجوع وضراوة هذه التجارب من أجل البقاء، حيث سيكون لنا في القريب، أياما صعبة للغاية، وستصير كسرة الخبز اليابسة، إن وجدت، الرفاهية الوحيدة، ولتدارك هذه التوقعات المؤلمة، يمكن التحرك الآن، والبدء بوضع خطط واقعية وقابلة للتنفيذ، قبل أن تحدث الكارثة الكبرى.

قد يكون الحديث عن موافقة بعض الساسة والنافذين لسياسات التقشف، اضطراريا أو طوعيا، ضرب من الخيال، كأن يستبدل أحدهم طقم "السينيه" بقميص غاندي، أو يتخلى عن سيجاره الكوبي الفاخر ومشروبه المفضل، أو يتناول العدس والبرغل كبدائل عن اللحم، أو يوافق أحدهم على تخفيض تسعة، وليس تسعين بالمئة من راتبه، أو يفكر أحدهم أن يفتح أبواب قصره لإيواء المشردين وإطعام الجياع، بل على العكس، قد يقترح أحدهم فتح المزيد من الزنازين للمحتجين الجياع، لكنه ليس خيالا أن الشعوب بإمكانها التكافل لمنع حدوث التهلكة أو التخفيف من آثارها، وليس خيالا أن هذه الشعوب تنتظرها أيام صعبة للغاية في مواجهة وحش الجوع الكاسر.

يا لعار البشرية، جوعٌ في بلاد الشام وفي القرن الواحد والعشرين!

المصدر: "الحرة"