بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 آذار 2020 08:09ص المصارف بين «منع التصرف» والمنع المؤقت لـ «منع التصرف»

حجم الخط
بقدر ما لا يجوز للمصارف أن تنظر إلى عملها انها مجرّد «قطاع خاص» في علاقة عادية بين شركة وزبون وبين باعة ومشترين، بقدر ما لا يجوز للسلطة القضائية أن تصدر قرارا عاجلاً خلال 24 ساعة في قطاع حيوي متصل بـ «الشأن العام» له علاقة وثيقة بالنقد الوطني وبالمصالح العامة للدولة وبالقوة الشرائية للمواطن ومتطلبات النمو وفرص العمل والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وحتى النفسي والأمني لكل فئات المجتمع، ولدرجة ان محافظ البنك المركزي الألماني Hjalmar Schacht قال خلال عشرينيات القرن الماضي: «ان فكرة النقد مرتبطة بفكرة الوطن!».

 والمؤرّخون عن مسيرة العمل المصرفي في العالم وصفوا كيف كان الناس تودع أموالها في المعابد الدينية تأكيداً على الصلة الوثيقة بين المسألة النقدية والمسألة الاجتماعية. وبالتالي فان ما شهدناه أمس الأول في قرار المدعي العام المالي «منع تصرف» على مجالس إدارات ٢١ مصرفا استنادا الى معطيات قانونية أولية، ووسط غضبة شعبية على ممارسات مصرفية، ثم في قرار المدعي العام التمييزي تجميد «المنع» - وفي أول حدث مصرفي من نوعه في تاريخ لبنان - دليل على الترابط الوثيق بين «الخاص» و«العام» في مسألة شديدة التعقيد والحساسية مثل المسألة المصرفية، وبحيث ان التحقيقات فيها ينبغي ان تعطل بمعطيات متعددة الجوانب والاعتبارات وثيقة الصلة بالأوضاع العامة، وهو ما أخذه بالاعتبار قرار المدعي العام التمييزي الذي لا يلغي أو ينقض قرار المدعي العام المالي بل «درس تأثير القرار على النقد الوطني وعلى المعاملات المصرفية وأموال المودعين وعلى الأمن الاقتصادي كما جاء في نص قرار المدعي العام التمييزي بـ «تجميد» أو بـ «منع مؤقت» لـ «منع التصرف» الوارد في قرار المدعي العام المالي. وفي القرارين معا الجانب العام الخاص في موضوع المصارف. يبقى بعد ذلك الموضوع الأهم: أموال المودعين من مختلف فئات الشعب اللبناني القلقين على مدخراتهم التي تتآكل يوميا مع التصاعد المتواصل في سعر الدولار وأسعار المعيشة في دولة نهبت ثرواتهم وجنى عمرهم وأوقعتهم في مديونيات نادرة المثيل في العالم من حيث معدل الانتاج وحجم الاقتصاد وضيق الموارد وفي عجز متواصل في الموازنات والموازين، كما في الحالة النقدية في الاستحقاقات الداهمة الآن التي تشتد على دولة باتت محاصرة ماليا في «عنق الزجاجة» وحكومة ضاقت عليها الخيارات سواء بالتأجيل المسوف أو الدفع المستنزف.

وليس بوسعها شراء المزيد من الوقت أمام انتفاضات قد لا ينفع معها بعد اليوم المقولة الشهيرة بان لبنان  - كما في توصيف ميشال شيحا - «بلد تصونه التقاليد (الدينية) من العنف (الثوري). فالحراك اللاطائفي الذي نراه اليوم سبقه في تاريخ لبنان انتفاضات مدنية لا طائفية عدّة، كما في الانتفاضة  الشعبية المعروفة باسم «العامية» (عامة الناس بكل طوائفهم) ضد ضرائب الامارة اللبنانية عام ١٨٢٠ التي أخرجت الأمير بشير الثاني من الحكم ومن البلد، وقبلها انتفاضة ١٦٥٤ وبعدها انتفاضة الفلاحين في الجبل في القرن التاسع عشر، وكل منها جردت الاقطاعيين من ممتلكاتهم وأبعدتهم الى مناطق بعيدة في لبنان. فهل ما يمنع الآن أن يعيد التاريخ نفسه في مثل ما نشهده اليوم في منعطفات مصيرية ليس منها الحراك الشعبي الآن إلا دلائل على انتفاضة مدنية شاملة ضد نظام الهدر والفساد والرشوات والسرقات.