بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تشرين الأول 2020 05:56ص للذكرى وللعبرة... يوم استشرف الرئيس الحص أزمة «انترا» قبل 11 شهراً من انفجارها

حجم الخط
قلائل هم الذين استشرفوا أو تنبأوا بحصول أزمات اقتصادية كبرى، وقد كان منهم الاقتصادي الانكليزي الملهم «جون كينز» الذي توقّع انفجار التضخم الجامح بمئات مليارات الدولارات مقابل مارك واحد في ألمانيا العشرينيات، ومنهم أيضا الاقتصادي اللبناني القدير نسيم طالب الذي كان وحده تقريبا من بين كل اقتصاديي العالم من توقّع الأزمة المالية العالمية الكبرى ٢٠٠٨ في كتابه «The Black Swan» أو «البجعة السوداء». حتى أن الملكة اليزابيت عند افتتاحها المبنى الجديد لبنك انكلترا المركزي سألت كبار الاقتصاديين الذين حضروا المناسبة: لماذا لم يتوقع أحد منكم أزمة عالمية كبرى بهذا الحجم؟

وفي لبنان..

ورغم ان كثيرين من أهل الاقتصاد والمال حذّروا على مدى عشرات السنين الماضية من أزمات اقتصادية مرتقبة، إلا أن توقعاتهم لم تصل الى استشراف هذا الحجم الكبير من الانفجار المصرفي الذي هزّ لبنان في العام ٢٠١٩ وما زالت تداعياته وتأثيراته تتواصل حتى الآن ولسنوات طوال في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية.

ومع ذلك فان الوفاء للذكرى وللتاريخ يقتضيان استثناء الرئيس سليم الحص الذي استشرف أكبر أزمة مصرفية - اقتصادية عرفها لبنان في تاريخه الحديث.

ففي بداية العام ١٩٦٦ قبل دخوله نادي رؤساء الحكومات، زار الدكتور سليم الحص الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، مكاتب «مجلة المصارف» في الوسط التجاري - مبنى بنك بيروت والبلاد العربية، وسلّمني مقالا لنشره في المجلة التي كنت أرئس تحريرها، توقّع فيه انفجار أزمة مصرفية مروّعة تهزُّ لبنان وتسقط مصارف ومؤسسات كبرى ودون أن يذكر بالإسم أيا منها، إلا أنه من خلال الاحصاءات المصرفية التي تضمنها المقال، كان واضحا لمتتبعي التطورات الاقتصادية ان المقصود كان بنك انترا الذي انهار في ١٥ تشرين الأول من ذلك العام، بعد ١١ شهرا فقط من مقال الدكتور الحص الذي نشرته «المصارف» في عددها السنوي تحت عنوان «١٩٦٦عام سعيد؟» وفي مرحلة كانت توحي بازدهار مصرفي لم يكن احتمال انهياره وبالسرعة التي تنبأ بها المقال غير وارد لا في لامبالاة السياسيين ولا في عقول الاقتصاديين ولا في مخيّلة المنجمين!

فماذا في المقال؟

كتب الرئيس الحص: 

١- من خلال تقصّي المؤشرات والأرقام المتوافرة هناك نقص هائل في الاحتياطيات لدى القطاع المصرفي (في فترة كان مصرف لبنان حديث العهد وجزء كبير من احتياطات المصارف مودعة لدى «بنك انترا» لقاء فوائد مغرية).

٢- جزء من السيولة مجمد في تسليفات ودون خطة للطوارئ، في مشاريع عقارية وسواها جزء كبير منها ليس لأهل البلد، ومشاريع مستجدة لبنانية وعربية تتحوّل معها الودائع «لأجل» الى «تحت الطلب» بما يتطلب لتلبيتها احتياطيات عالية غير متوافرة بالقدر الكافي.

٣- تراجع الدفق النقدي الى الداخل وتحوّل ودائع الى الخارج، بسبب ارتفاع الفوائد العالمية (٩% في اليابان و٨% في بريطانيا و6,5% في الدانمرك و٦% في السويد وجنوب أفريقيا) مما زاد في حدة أزمة السيولة في الداخل.

٤- تراجع في الاستثمارات من خلال بورصة بيروت التي تعاني أزمة فقدان الثقة عبّر عنها إضراب وسطاء البورصة وتراجع قيمة الأسهم المتداولة (في حينه) الى متوسط ٣٠٠٠ ليرة يوميا!

وعزز الرئيس الحص مقاله باحصاءات صندوق النقد الدولي ومديرية الاحصاء المركزي، موجزها ان الودائع تحت الطلب في سجلات المصارف تصل الى ٩٧١ مليون ليرة لبنانية يقابلها أموال نقدية فقط ٣٨ مليون ليرة، وبالتالي فان نسبة اجمالي الاحتياطي النقدي لمجموع الودائع بات أقل من ٤%!!

وأمام هذا الواقع المصرفي المأساوي الذي استشرف الرئيس الحص مخاطره وسط «الازدهار المصرفي» المقنع الذي انفجر بعد ١١ شهرا فقط بأزمة أنترا المروّعة، حذّر المقال بأن الوضع الاقتصادي المرتقب في لبنان العام ١٩٦٦ سيكون عام الحاجة المتزايدة الى السيولة. وإذا لم يتمكن البنك المركزي من إيجاد حلول عملية فإن هناك مجالات لتوقف مؤسسات كبرى بنوع خاص عن العمل. وليس في الجو ما يشير الى ان أموالا جديدة ستتدفق على البلد، خصوصا بعد أن وجد المتمولون العرب مجالات جديدة لهم في أوروبا وأميركا وفي بلادهم بالذات. مقابل هذا كله يجب القيام بعمل ما».

وأنهى الأستاذ الجامعي الدكتور سليم الحص بتلك العبارة مقاله الذي توقف بعده بنك «انترا» عن الدفع وانهارت معه عشرات المؤسسات التابعة له ومئات المؤسسات اللبنانية التي كانت تعتمد على تمويلات «انترا» مجمل القطاع المصرفي اللبناني في الداخل والخارج. ودون أن تستجب يومها لا رئاسة الجمهورية ولا مجلس النواب ولا الحكومة ولا وزارة المال ولا البنك المركزي طلب «انترا» لتجنب الأزمة قرضا بـ١٠٠ مليون ليرة فقط كانت أقل من ٢٠% من ميزانيته التي تجاوزت في حينه ما يوازي ٥٠٠ مليون ليرة لبنانية من عملات أجنبية وموجودات عينية وأسهم وسندات محلية وعالمية فقط، وبما كان يمكن في حينه أن يوقف الأزمة ويمنع الانفجار...