بيروت - لبنان

اخر الأخبار

تكنولوجيا

16 تموز 2018 03:50م ما هو جسيم "نيوترينو"؟ هل يسبب تغير هائل في قواعد العلوم الفلكية؟!

حجم الخط

القطب الجنوبي مكانٌ قاسٍ لإجراء الأبحاث العلمية، فقد تنخفض درجات الحرارة إلى أدنى من سالب 35 درجة مئوية، والهواء خفيف ومنعدم الرطوبة.

غير أنَّ علماء الفيزياء يتدفقون إلى مرصدٍ في القطب الجنوبي، لأنَّه من أفضل الأماكن للإجابة عن لغز يلاحق مجالهم منذ أكثر من قرن، حسب موقع Vox الأميركي.

ما هو الشيء الموجود في الفضاء الذي يُطلق أشعة قوية جداً من الجسيمات دون الذرية باتجاه كوكب الأرض؟

اكتشف العلماء في عام 1912 أنَّ أشعة من الجسيمات دون الذرية، وهي وحدات بناء المادة مثل البروتونات والإلكترونات و الميونات والنيوترينوات والكواركات، تضرب الأرض كل يوم. واتضح للعلماء لاحقاً أنَّها ترتطم بالأرض بقوة تفوق قوة مُعجِّلات أو مُسرِّعات الجسيمات التي بناها البشر، ومنها مصادم الهدرونات الكبير. تحمل بعض هذه الجسيمات طاقة هائلة لدرجة أنَّ العلماء احتاروا في ماهية الأجسام الموجودة في الفضاء التي تتمتع بقوة كافية لإنتاج مثل هذه الجسيمات.

إنها مجرات البلازار ذات الثقوب السوداء الهائلة

الآن، لدينا دليل مهم يُشير إلى جسم واحد على الأقل ربما يكون مسؤولاً عن إنتاج بعض هذه الجسيمات المسماة في أغلب الأحيان بـ»الأشعة الكونية» التي ترتطم بالأرض. في دراستين جديدتين تُنشران يوم الخميس 19 يوليو/تموز في دورية Science، أفاد فريقٌ كبير من علماء الفيزياء بأنَّ أحد مصادر الأشعة الكونية هو نوعٌ خاص من المجرات يُعرف بالبلازار Blazar. تحتوي البلازارات ثقوباً سوداء بالغة الضخامة في مركزها تمزق المادة إلى مكوناتها الأولية ثم تقذف الجسيمات دون الذرية، مثل مدفع ليزر، إلى الفضاء.

NASA

ما زال مصدر الأشعة الكونية لغزاً لم يُحلّ بالكامل. لا يدري العلماء إن كانت هناك أجسامٌ أخرى قادرة على إنتاج هذه الأشعة، ولا تفسر النتائج الحالية بعد مصدر أقوى الأشعة الكونية المسجلة. وهم كذلك ليسوا واثقين بالكامل من أنَّ البلازار هو مصدر الأشعة (لا يستهين علماء الفيزياء باستعمال كلمة «أكيد»).

لكنَّها بداية مثيرة. فقد اكتشف العلماء الأشعة الكونية للمرة الأولى في 1912، والآن فقط حققنا تقدماً كبيراً في فهم كيفية وصولها إلى كوكبنا.

(تبث مؤسسة العلوم الوطنية مؤتمرها الصحافي للإعلان عن النتائج بثاً مباشراً. ويمكن مشاهدته من هنا ).

كيف أدى مكعب ثلجي ضخم بالقطب الشمالي إلى الاكتشاف؟

من مصادر الأشعة الكونية ما نعرفه بالفعل، مثل الشمس، التي تقذف باستمرار أجزاء من المادة في كل اتجاه. بل يُمكن إنتاج الأشعة الكونية من تصادم الذرات في الطبقات العليا من غلافنا الجوي.

لكن هناك أشعة كونية ترتطم بالأرض بمستويات طاقة تترك العلماء في حالة ذهولٍ تام. وهذا هو اللغز المستمر منذ مئة عام.

يعمل هذا الفريق العلمي باستخدام مرصد النيوترينوات المعروف بمكعب الجليد IceCube ، المبنيّ مباشرةً على الجليد الموجود تحت سطح القطب الشمالي. يمول المرصد مؤسسة العلوم الوطنية الأميركية، ويخضع لإدارة جامعة وسكونسن.

المرصد عبارة عن مكعب من الثلج الشفاف تماماً يبلغ حجمه كيلومتراً مكعباً، تحيط به مجسات مُعدَّة لتتبع اصطدام الجسيمات دون الذرية المسماة بالنيوترينوات -التي تصاحب جسيماتٍ دون ذرية أخرى كجزءٍ من الأشعة الكونية- بسطح الأرض.

تختلف النيوترينوات عن المكونات الأخرى للأشعة الكونية اختلافاً بالغ الأهمية، فهي لا تتفاعل مع أشكال المادة الأخرى نهائياً تقريباً. لا تحمل النيوترينوات أي شحنة كهربائية، لذا لا تتسبب مغناطيسية الأرض في انحرافها. وهي تسافر عبر الفضاء في خطٍ مستقيم نسبياً، وبذلك يمكن تتبعها إلى المصدر، حسب موقع Vox الأميركي.

طاقة هائلة بسرعة هائلة

أقرب ما لدينا من طاقة يمكن مقارنتها بهذه الأشعة واستخدامها في تفسيرها هو مصادم الهدرونات الكبير الموجود بالقرب من مدينة جنيف السويسرية. مصادم الهدرونات هو أقوى مُعجِّل جسيمات على وجه الكوكب وأكثرها تعقيداً. يُمكن للمصادم تسريع جسيم بروتون إلى ما يقترب من سرعة الضوء، وشحنه بطاقة تبلغ 7 تيرا إلكترون فولت، وهي طاقة تكفي لتحطيم الذرات إلى أجزاء متناهية الصغر وكشف البنية التكوينية التي تُشكِّل الكون.

إنَّه مذهل. لكنَّه لا يقترب حتى من طاقة الجسيمات المنهمرة من الفضاء. أعلى جسيمات الأشعة الكونية المسجلة طاقةً، المعروف بجسيم «يا إلهي – Oh-My-God»، بلغت طاقته مليوني ضعف البروتونات المسيرة في مصادم الهدرونات الكبير.

كيف يحدث ذلك؟

يتساءل فرانسيس هالزن، عالم فيزياء الجسيمات بجامعة ويسكونسن وأحد أبرز المشاركين في الاكتشاف الجديد: «كيف يحدث ذلك؟ لقد احتل هذا السؤال لعقودٍ مكاناً على قائمة الأسئلة الكبرى المفتوحة في مجالي الفلك والفيزياء».

تكمن مشكلة النظر في مصادر الأشعة الكونية فائقة الطاقة في أنَّها لا تتحرك دوماً في خطٍ مستقيم، وهذا يعني غياب إمكانية تتبعها إلى مصدرها. في الواقع، تتواجد الأضواء الشمالية والجنوبية بالقرب من القطبين لأنَّ المجال المغناطيسي للأرض يعيد توجيه جزء كبير من الأشعة الكونية إلى هاتين المنطقتين.

هنا يأتي دور مرصد القطب الجنوبي. فهناك يبحث هالزن، و ناوكو كوراهاشي نيلسون ، عالِمة فيزياء الجسيمات بجامعة دركسل، وعددٌ من زملائهما الفيزيائيين، عن أجوبة هذا اللغز في وسط الجليد.

نيوتريونات تخترق الأجسام الصلبة

يشرح نيلسون، المشارك في إعداد كلتا الورقتين المنشورتين في Science، قائلاً: «إن أضأت مصباحاً يدوياً على حائط، فلن يعبره الضوء. هذا لأنَّ جسيمات الضوء المسماة بالفوتونات تتفاعل مع جسيمات الحائط ولا يمكنها الاختراق. أما إن كان المصباح يطلق النيوترينوات، فسيمر دفق النيوترونات من خلال الحائط».

والنيترينو هو جسيم أولي بكتلة أصغر كثيراً من كتلة الإلكترون ، وليست له شحنة كهربية ، ويرتطم نيوترينو -ربما واحدٌ من كل مئة ألف- بذرَّة في جليد المرصد ويحطمها بين الحين والآخر.

وينتج عنها جسيمات تفوق سرعة الضوء!

وهنا يقع أمرٌ مذهل: ينتج الاصطدام جسيمات دون ذرية أخرى، مثل الميونات، تُقذَف بسرعة تفوق سرعة الضوء أثناء مرورها خلال الجليد.

ربما سمعت من قبل بأن لا شيء يمكنه تجاوز سرعة الضوء. هذا صحيح، لكن في الفراغ فقط. فالفوتونات المُكوِّنة للضوء (وهي جسيمات دون ذرية في حد ذاتها) تبطئ سرعتها قليلاً في الحقيقة حين تدخل مادة كثيفة مثل الجليد. لكن الجسيمات دون الذرية الأخرى، مثل الميونات والإلكترونات، تحتفظ بسرعتها.

وحين تتحرك الجسيمات أسرع من الضوء خلال وسط مثل الجليد، يصدر وميض. يُعرَف هذا بإشعاع شيرينكوف، وهذه الظاهرة تشبه ظاهرة الدوي المصاحب لاختراق حاجز الصوت (حين يتجاوز الجسم سرعة الصوت ينشأ عن ذلك صوتٌ مدوٍ). بالمثل حين تتحرك الجسيمات أسرع من الضوء، فإنَّها تخلِّف وراءها ضوءاً أزرق عجيباً كما يخلِّف الزورق البخاري أثراً في المياه.

هذا تصوير فني لما يبدو عليه الأمر كله. النيوترينو هو الشكل الرمادي المشابه لدمعة العين.

اكتشاف مثير في عصر علم الفلك متعدد الرسائل

الضوء المنبعث من هذه الجسيمات هو السبب الذي يجعل الجليد بالغ الأهمية لهذا المرصد. فهو شفافٌ تماماً، وبذلك يمكن للمجسات رصد الوميض ورسم مسارٍ لمكان تولُّده في السماء. وهذا النيوترينو بعينه الذي قاد إلى الاكتشاف الجديد ارتطم بالمكعب الجليدي في سبتمبر/أيلول 2017 بطاقة بلغت 290 تيرا إلكترون فولت. مرة أخرى، يعادل هذا 40 ضعف طاقة الجسيمات في مصادم الهدرونات الكبير.

وحددت حواسيب المرصد، في غضون دقيقة، أنَّ النيوترينو قد جاء من اتجاه كوكبة الجبار، وأرسلت تنبيهاً آلياً إلى المراصد في أنحاء العالم من أجل البحث عن مصدرٍ أكثر دقة، حسب الموقع الأمريكي.

هنا حالف الحظ الباحثين. ففي اللحظة ذاتها تقريباً، رصد تلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة غاما زيادة في أنشطة الطاقة من مجرة في الاتجاه نفسه، وهو ما التقطته المراصد في أنحاء العالم والفضاء الخارجي أيضاً.

تجادل ورقتي Science البحثيتين بأنَّ هذا على الأرجح لم يكن مصادفة، فقد التقط تلسكوب فيرمي والمراصد الأخرى نفس دفقة الأشعة الكونية التي دفعت النيوترينو باتجاه مرصد مكعب الجليد، وتتبعوا النيوترينو إلى بلازار بعينه يبعد 4 مليارات سنة ضوئية. ومع ذلك، العلماء ليسوا واثقين تمام الثقة من النتيجة.

يقول كايل كرانمر، عالم فيزياء الجسيمات بجامعة نيويورك وغير المشارك في البحث: «لا تؤكد هذه النتيجة بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ النيوترينو جاء من البلازار. سأود أن أرى مشاهدة أخرى مثل هذه».

ويتفق معه علماء المرصد. فيقول هالزن: «أقارن البحث بتحقيق الشرطة في جريمة قتل. لقد حققنا إنجازاً للتو ونعرف أنَّنا سنعثر على القاتل، لكنَّنا لم نجده بعد». وذلك مع أنَّ فرضية كون البلازار هو مصدر النيوترينو يدعمها أنَّ فريق مرصد مكعب الجليد راجع بيانات الأعوام القليلة الماضية، واكتشف نيوترونات أخرى مصدرها البلازار نفسه على الأرجح.

والعلماء يعكفون على دراسة النيوترينوات والبلازارات

يرصد مكعب الجليد النيوترينوات بشكلٍ منتظم، ويدرس علماء الفلك البلازارات بشكلٍ منتظم. الجديد والمثير هنا هو أنَّ فريق مرصد مكعب الجليد تمكَّن من اللجوء للزملاء في المراصد الأخرى حول العالم من أجل تتبع مصدر نيوترينو عالي الطاقة للمرة الأولى.

وكما في الاكتشافات الفيزيائية الأخرى، يطرح الاكتشاف أسئلة أكثر مما أجاب عنها. فما زال العلماء لا يعرفون كيف تُعجِّل البلازارات الجسيمات لتصل إلى هذه المستويات العالية من الطاقة. ولا يعرفون ما إن كانت جميع البلازارات تقدر على هذا أم بعضها فقط. كما لا يعرفون ما هي الأجسام الأخرى في الفضاء القادرة على إنتاج أشعة كونية عالية الطاقة.

حل يطرح أسئلة جديدة

يقول هالزن: «هذا هو العلم كما اعتدناه. تحل معضلة فيطرح الحل أسئلة أكثر بكثير وأصعب في حلها. لكن هذا موقفٌ مثالي من أجل إحراز تقدم».

لكن ما قد يكون أكثر إثارة بكثير في هذه النتائج هو أنَّ هذا التعاون الدولي في مجال الفلك قد ينتج عنه ما هو أكثر بكثير. تقول ساره ديمرس، عالِمة فيزياء الجسيمات بجامعة ييل وغير المشاركة في البحث: «بغض النظر عن كون مصدر النيوترينو هو البلازار أم لا، فإنَّ النتائج تدريبٌ مذهل للنظام ككل». إنَّه إنجازٌ مبهر أن يتمكَّن معمل مكعب الجليد من إرسال إشعارٍ لتتعاون بموجبه التلسكوبات الأخرى في اليوم نفسه.

وسيمكننا مشاهدة الكون في صور أخرى جديدة

في الأعوام الماضية، تحمس علماء الفلك لفكرة علم الفلك «متعدد الرسائل»، وهي مشاهدة الكون عبر قوى طبيعية غير الضوء. نعم، يمكننا رؤية الكون بكل الأطوال الموجية في الإشعاع الإلكترومغناطيسي: الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية وأشعة غاما وغيرها. لكن كل أشكال الإشعاع هذه هي أشكال مختلفة للضوء. الجديد والمثير في علم الفيزياء اليوم أنَّ بإمكاننا «مشاهدة» الكون في صورة نيوترينوات، و موجات جاذبية اعتباراً من العامين الماضيين.

تجميع قدرة المراصد التي يمكنها رصد الإشعاع الإلكترومغناطيسي والنيوترينوات وحتى موجات الجاذبية يُسهِّل على العلماء إلقاء نظرة أعمق إلى الوراء على الكون. وعن هذا يقول نيلسون: «ذلك ما سيغير قواعد اللعبة».