بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 شباط 2020 12:02ص أربع لوحات عشتها مع «ألبرت حوراني» (الحلقة الأخيرة)

تحية إلى «ألبرت حوراني» في الذكرى السنوية الـ27 لوفاته

ألبرت حوراني ألبرت حوراني
حجم الخط
اللَّوحة الثَّانية:

يومَ عزمتُ على التَّقدم بطلب الالتحاق بجامعة «أكسفورد»، في بريطانيا، لتحضير أطروحتي لنيل الدكتوراه، نصحني أستاذي، الدكتور «خليل حاوي»، أن أغتنم وجودي، في تلك الجامعة الكبرى والعريقة، فرصةً للنَّهلِ من منابع الفِكر والثَّقافة الغربيين. قال لي «لا تُفَوِّت مناسبةً أو محاضرةً تهمّكَ أو تُثير انتباهك، مِن دون أن تحضرها وتُشارك فيها. وقال لي، أيضاً، لا تظنَّ أنَّك ستتعلم كثيراً عن موضوع أطروحتك في «الأدب العربيِّ» هناك؛ لكنها فرصة عمرٍ لِتتعلَّم وتتعرَّف على حركة العالم الثَّقافيَّة عن قرب؛ هذا هو واجبك من عيشِ ما يتيحه لك الزَّمن في هذه الجامعة.

لم يكن مقرَّراً عليَّ حضورُ أيُّ درسٍ أو الخضوع لأيِّ امتحان في أيَّة مادَّةٍ كانت في «أكسفورد»؛ جلُّ ما كنتُ مكلَّفاً به، رسميَّاً، كان إعداد بحثي للدكتوراه؛ لكن كان ليَ حقُّ الالتحاقِ بأيِّ صفٍّ أو محاضرةٍ أو ندوةٍ في رحابِ تلكَ الجامعة. وهكذا اخترتُ، فيما اخترته، أن التحقَ بصفوفِ «الأستاذ ألبرت حوراني»، التي كان يبحثُ فيها بعض شؤونِ «تاريخ الشَّرق الأوسط» في المعهد الشَّرقي!

يَدخلُ «ألبرت حوراني» قاعة الدَّرسِ، وقد اشتملَ بالعباءةِ الجامعيَّة السَّوداء (The Gown)، وكان هذا ضمن التَّقاليد الأكَّاديميَّةِ التي لا بُدَّ من التزام بها مِن قِبَلِ جميع أفرادِ الجسم الأكَّاديميِّ التَّعليميِّ في «جامعة أكسفورد». لا يجلسُ «ألبرت حوراني» على مقعدٍ أثناء المحاضرة؛ بل يظلُّ واقفاً، قبالة طاولةِ المحاضراتِ، طوال الوقت.

يفتحُ «ألبرت حوراني»، أمامه، على تلك الطَّاولة، دفتراً مدرسيَّاً بسيطاً، وقد دَوَّنَ عليه بعض الأفكار؛ بيد أنَّه قلَّما كان ينظر إل هذا الدَّفتر. وقفةُ «حوراني»، في قاعة الدَّرسِ، ما انفكَّت ماثلةً في ذاكرتي: قامةٌ مربوعةٌ، شَعْرٌ اشيبٌ، نظَّارةٌ ذاتَ زجاجٍ شفَّافٍ بإطارٍ أسود، بزَّةٌ رماديَّةٌ متوسِّطةُ العمرِ، تُغطي معظمُ أجزائها تلك العباءةُ الجامعيَّة السَّوداء. يبدأُ «الأستاذ ألبرت» الكلام، بصوتٍ متقطِّعٍ رقيقٍ منخفِضٍ، يُحِسُّ معهُ سامعهُ وكأنَّ صاحبه يتعثَّرُ في تأديةِ ما يقولُهُ مِنْ كلمات؛ ولكن، لا تعثُّر، بلْ لعلَّهُ تمهُّلُ العالِمِ المُحَقِّقِ في التَّثَبُّتِ من صحَّة كلِّ معلومةٍ يقدِّمُها ويتلفَّظُ بها.



لا يغادر «حوراني»، في قاعة الدَّرسِ، تلكَ المساحة الضيِّقة الممتدَّة مِن طاولة المحاضرات أمامه، إلى موقعِ لوحِ الكتابة الأخضر الكبيرِ خلفه. ولعلَّ من أطرف ما لفت نظري، زمنذاك، في «ألبرت حوراني»، هذا التَّناسق بين حركة شَفَتَيْهِ، حين يتحدَّث، وحركة أصابع يَدِهِ اليمنى؛ إذ يكوِّر اليدَ، ثمَّ يبسُطها، ليرفعها إلى مقابِل ذقنه، مُشيراً بسبَّابتهِ إلى فضاءٍ ما في القاعةِ، مُصاحباً اشارته برَّفةٍ سريعةٍ مِن جَفْنَيْهِ، وهزَّةٍ شديدة الرِّقةِ برأسه، برشاقة راقص «باليه»؛ فلا تكون الحركةُ معه تَقَصُّداً، بل تناغماً تلقائِيَّاً بين داخليَّه تَكَوُّن الفِكر وظاهريَّة الانفعالِ بالتَّعبير عنه!

حاولتُ، في المحاضراتِ الأولى التي تابعتُها، أن أُدَوِّنَ كلَّ ما كان يقوله «الأستاذ حوراني»؛ لكنِّي وجدتُ أنَّ التَّدوين يسرق منِّي فائدةَ متابعة المحاضرةِ؛ وذلكَ لِشِدَّةِ ما في محاضرتِهِ مِن أعماقٍ فكريَّة وطرحٍ لإشكالاتٍ موضوعيَّةٍ في رؤية الحَدَثِ التَّاريخي. تحوَّلُت، إثرَ هذا، إلى اعتمادِ الاستماعِ، وإلى تدوينِ أبرزِ الأفكار. كانت الأفكارُ غزيرةً جدَّاً؛ فليس في كلامِ «الأستاذ» سردٌ إنشائيٌّ؛ وكم راودتني فكرة أنَّ محاضرةً واحدةً مِن محاضراته هذه، يمكن أن تكفي، إذا ما توسَّع المرءُ في إعطائها، موسماً جامعيَّاً كاملاً! لم تكن محاضرات «الأستاذ حوراني» مجرَّد معلوماتٍ، بقدرِ ما كانت أفكاراً تَطرحُ أسئلةً وتناقِشُ وجهاتِ نَظَرٍ وتستعرِضُ كَمَّاً كبيراً من الاحتمالاتِ والآراء.

كنتُ ملتحِقاً، هذه المرحلة، بمحاضرات «ألبرت حوراني» في موضوع «عصر النَّهضة»، في العالَم العربيِّ؛ وتحديداً في البحث في الحضورِ الفكريِّ والثَّقافيِّ للمعلِّم «بطرس البُستاني». وكم أشار «ألبرت حوراني» إلى أنَّ المُعَلِّم «بطرس البُستاني»، الذي ولد مسيحيَّاً مارونيَّاً، وتربَّى في المدارس الإنجيليَّة التَّبشيريَّة للمرسلين الأميركان، وعمل مع الأميركيين في مؤسَّساتهم القنصليَّة في لبنان؛ ما كانَ منه إلاَّ أنْ أسَّس، بُعَيْدَ أحداث 1860 الطَّائفيَّة، مدرسةً أصرَّ على تسميتها بـ «المدرسة الوطنيَّة»، وليس «المسيحيَّة» أو «الإنجيليَّة» أو «الأميركيَّة». مدرسةٌ وطنيَّةٌ يُطبِّقُ، من خلالها، رؤيتهُ التي نادى بها بأنَّ «الدِّين للّهِ أمَّا الوطن فللجميع»! ولعلَّ في هذا الانتباه، من «حوراني»، إلى مسلكيَّة «بطرس البُستاني»، ما يذكِّرني بكثيرٍ مِن سَعي «ألبرت» نفسه، إلى تحقيقِ موضوعيَّةٍ علميَّةٍ منهجيَّةٍ؛ إنمازَ بها في تعاملِهِ مع الدِّراساتِ التَّاريخيَّةِ التي أنشأها؛ مبتعداً، قدر ما يستطيع، عن التَّحيُّزِ أو التَّعَصُّبِ.

اللَّوحة الثَّالثة

تنبثق عن الكليَّات في «جامعة أكسفورد»، مراكز أبحاث ودراسات عديدة ومتنوِّعة؛ تجتمع فيها اهتمامات المنتسبين إلى تلكَ الكليَّات. ويُعتبر «مركز الشَّرق الأوسط»، (The Middle East Center)، من أهمِّ المراكز المنبثقة عن «كليَّة سانت أنتوني» (St. Antony`s)؛ حيث كان «ألبرت حوراني» قد أسّس هذا المركز، سنة 1957، وتولَّى رئاسته لمدَّة طويلةٍ؛ ثم تَسَلَّم بعض تلامذته، الذين أصبحوا أساتذة في الجامعة، مهام إدارة المركز، ومنهم الدكتور روجر أوين (Roger Owen) والدكتور ديريك هوبوود (Derek Hopwood).

كان لـ «ألبرت حوراني» ندوة فصليَّة جامعيَّة،(Seminar) يُديرها في هذا المركز. وكانت مباحث النّدوة تدور حول موضوعات الشَّرق الأوسط، وكان طلاب الدِّراسات العُليا يقدِّمون فيها أبحاثاً لهم، بتوجيهٍ مباشرٍ وإشرافٍ أكَّاديميٍّ مِن «ألبرت حوراني». وكانت هذه الأبحاث، أو أبرز ما يُقدَّمُ منها، تجمعُ في كتيِّبات خاصَّة (Booklets)، وتُنشرُ تحت اسم «أوراق سانت أنتوني «(St. Antony’s Papers). وقد أصدرت «الكليَّة» مجموعة هامَّة من هذه «الأوراق»، أشرفَ عليها وحرَّرها «ألبرت حوراني». وهذه المجموعة من الإصدارات تُعتبر من المراجع العلميَّة الأساس، في مجالات اختصاصها، وإليها يعود كثيرون من المهتمِّين لدراسات الشَّرق الأوسط.

كان «حوراني»، غالباً ما ينتحي جانباً من القاعة، في هذه النَّدوات، حيث يقدِّمُ المحاضر بحثه؛ فلا يكاد الطَّالب المحاضر يحسُّ برهبةِ وجود الأستاذ «الكبير». وما زلتُ، للآن، أذكرُ منظر «ألبرت حوراني»، خلال كثيرٍ من هذه النّدوات، وقد اسندَ رأسه إلى كَفِّه الأَيمن، وأغمض عينيه، وكأنَّه في شبه اغفاءةٍ هانئةٍ؛ لا يبدو على وجهه فيها أيَّ انفعال. وكُنَّا نعتقدُ أنَّ «الأستاذَ» يستريحُ، ههنا، مِن عناءِ عملهِ، خلالَ استماعِنا لعرضِ البحث مِن قِبَلِ الطَّالب. بَيْدَ أنَّ المفاجأة كانت تأتي عقبَ انتهاءِ الطَّالب مِن تقديمِ بحثه؛ إذ يُتاحُ المجالُ للحضورِ في المناقشة وإبداء الرَّأي. وكنَّا نتحدَّث، بلْ نتبارى في التَّعقيب أو الاعتراض؛ و«حوراني» مستمرٌّ على تلك الحالِ مِن إسنادِ الرَّأسِ إلى الكفِّ الأيمنِ وإغماضِ العينين. وقُبيلَ انتهاء المناقشة، يرفعُ «الأستاذ» رأسَه، يفتحُ عينيه، ويطلبُ الكلام. يبدأُ بتعدادِ محاسنِ ما سمعه من البحث، ذاكراً كلِّ نقطة استحسانٍ بنقطتها؛ ويستمرُّ في كلامه، مُطريا على عمل الطَّالب، مُشيداً بما توصَّل هذا الأخير إلى تحقيقه مِن معلوماتٍ وقضايا، إلى أنْ يتوقَّف هُنيهةُ، يعتدلُ خلالها في جلسته، ثمَّ يُعاودُ الكلامَ بادئاً بكلمةِ «ولكن»(But). وهنا كانت «لحظةُ الحقِّ» (moment of truth) بالنسبة إلينا جميعاً! فهذا الذي حَسِبناهُ هانِئاً بغفوته، خلال إلقاء البحث، يتحوَّلُ إلى مُدَقِّقٍ مُحَقِّقٍ مُناقِشٍ لا يتركُ شاردةً ولا واردةً، من سلبيَّات العملِ أو قصوراتِهِ أو أخطائه، إلاَّ وأشار إليها، وإلا وقد صّوَّبَ ما يجب تصويبه مِن المعلومات، وإلاَّ وقد لفتَ الطَّالب الباحث إلى ما يجب إعادة النَّظر فيه أو التَّعمُّق في تمحيصه وتحليليه.

اللَّوحة الرَّابعة:

من عادة «ألبرت حوراني» أن يُقيم في منزله، بين الفينة والفينة، حفلاً؛ يَجمع فيه بعض طلاَّبه وزائري «الجامعة» من أهل البحث العلمي. وفي هذه الحفلات كان «البرت» وزوجه، السيِّدة كريستين، يستقبلان المدعويين بحفاوة بالغة؛ ومعظم هؤلاء الزوَّار كانوا غرباءَ عن بعضهم، فكلُّ واحدٍ منهم ينتمي إلى بلدٍ مختلفٍ عن بلد الآخر، وربما كان لكل واحدٍ منهم معتقده الفكري أو السياسي المختلف عن زملائه، فلا يجمعهم في ما بينهم، وهم في ضيافة «ألبرت»، سوى الاهتمام بقضايا البحث العلميِّ والتَّلاقي حول مضيفهم.

كان «حوراني» دائم الإشراق، في تلك الحفلات التي يقيمها في بيته. يُعرِّف الحاضرين على بعضهم، ولا أقصد هنا التَّعريف بالاسم فقط، بل هو التَّعريف بالاهتمام الأكَّاديميِّ لكلِّ واحدٍ منهم، وذِكْرِ أبرز ما وَضَعَ مِن مؤلَّفاتٍ وأبحاثٍ في حقل اختصاصِهِ، فضلاً عن الإشارة الى آخر ما نَشر في هذه المجالات وما شارك بِه من ندواتٍ وورشِ عَمَلٍ ومؤتمرات. فكان «ألبرت حوراني» ينتقَّل بين هذه المجموعات، في رحاب دارته، ناشراً الوُدِّ الاجتماعي وموطِّداً للعلاقات الأكاديميَّة بين أفراد متباعدين في البلدان أو في الانتماء الفكري.

كُنتُ، بدايةً، خلال هذه اللقاءات، في منزلِ «آل حوراني»، شديد الخَفَرِ الاجتماعيِّ؛ وكيف لا وأنا ألتقي، وجهاً لوجهٍ، كباراً من ناس الأكَّاديميا طالما سمعتِ بأسمائهم وتشوَّقت إلى قراءة ما بلغني من أعمالهم، لكنِّي لم أكن أحلم يوماً بأنِّي سألقاهم وأحادثهم. وهنا، يتدخَّل «ألبرت»، إذ يقودني من معصمِ يدي اليسرى إلى أحدى زوايا الصَّالة التي نحتشد فيها؛ ويهمس في أذني، ببساطة مطلقة، قائلاً لي «أنتَ تُحَضِّر لأطروحتك لنيل الدكتوراه، وهذا يعني أنَّك باحثٌ أكَّاديميّ، وجميعنا في هذه الصَّالة نشتغل بالبحث الأكَّاديميّ، يعني أنتَ زميلٌ لنا، وكل ما قد ينقصك، ههنا، بعضُ خبرةٍ سبقناك إلى اكتسابها. كفاكَ خَفراً، وهيَّا تعامل مع كلِّ هؤلاء على أنَّكَ زميلُ لهم في البحث».

لم يكن «ألبرت حوراني» مجرَّد أستاذ في جامعة؛ ولم يكن مجرَّد باحث في الثَّقافة والتَّاريخ، ولم يكن مجرَّد إنسان لطيف دمث الأخلاق. كان مميّزاً، في كلِّ ما قدَّمه ومارسه؛ وكان تميُّزه هذا أصيلاً، نابعاً من ذاته، التي فاض من خلالها على محيطه وبيئته. فـ «البرت حوراني» وجودٌ فَذٌّ، بدأت رحلته من «مانشستر» في إنكلتره، حيث هاجر والده إليها من «مرجعيون» في لبنان؛ غير أنَّ ابنه «ألبرت» ظلَّ يعيش بلد آبائه في كلِّ وجدانه. ولعل من أروع أحداث حياة «ألبرت حوراني»، تلك الومضة البديعة، قبل أشهرٍ من وفاته، والتي أطلَّ بها لآخر مرَّة على لبنان؛ فكانت لقاء الأصالةِ بين وطنٍ ما نسي ابنه، وما نساه الابن؛ وسيبقى كلُّ واحدٍ منهما فخراً للآخر.

أما اليوم، ورغم أنَّ «ألبرت حوراني» قد انتقل الى جوار ربِّه منذ سبعٍ وعشرين سنةٍ، فلا يسعني الا أن أقول: «ألبرت، أيها العزيز، كنتَ رائعاً معي، وعساي أبقى على طموحِ الوصولِ، بمفاهيمي الأكَّاديميَّةِ وقِيَمِها وبطلاَّبي، الى بعضِ ما عِشْتُهُ معكَ مِن إخلاصٍ للمعرفة، وسُمُوٍّ بالأكَّاديميا وتواضعٍ بالذَّات».

  رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي