بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 أيلول 2023 12:00ص الثقافة العربية والتحدّيات الإقليمية

حجم الخط
كثيراً ما نغفل عن واقع تاريخي قائم أبدا، وهو أن الثقافة تغيّر مجرى التاريخ. وإذا كانت السياسة، بخلفياتها المتنوعة، تُبدّل أحداثا بأحداث وتستخدم الحروب، أحيانا كثيرة، لتغيير وجه منطقة من العالم أو العالم بأسره، فإنّ الثقافة تفعل - على المدى البـعـيـد - ما لا تطيقه السياسة؛ بل تتحكم بزمام السياسة، متجاوزة حدود البلاد التي تشكّل مجالها الحيوي لا تحدّه حدود ولا تردعه سدود!
يكفينا، لتمثل ذلك، أن نعتبر بعصر التنوير في فرنسا وأوروبا، وما استتبعه من تغيير في نمط تفكير المجتمعات الأوروبية فالعالمية وتاليا في طريقة الحياة في هذه المجتمعات، بحيث أننا حتى اليوم نحيا معطيات الثورة العلمية المتجذرة في ذلك العصر، عبر منتجاتها التكنولوجية التي اجتاحت العالم.
هذه المنجزات العلمية التكنولوجية التي غيّرت وجه العالم هي وليدة الثقافة التنويرية التي انطلقت من أطاريح فولتير وديدرو ومونتسكيو وبوقون وأضرابهم، وفعلت في المجتمعات الأوروبية فعلا عجابا بحيث كادت تصرف تفكير الناس عن الشؤون الدينية والأخروية والغيبية إلى الشؤون اليومية، قائلة بضرورة تأمين رفاه الإنسان وسعادته الدنيوية. وقد بالغت في هذا المنحى حتى دعت إلى قطع وشائج الارتباط بكل ما يخرج عن نطاق الطبيعة والعقل والتجربة.
كثيرة هي الأمثلة على فعالية الثقافة في تغيير مسار المجتمعات والأمم، في تاريخنا وتاريخ سوانا؛ لكننا اخترنا هذا المثل من عصر التنوير، عمدا، لصلته بموضوعنا فعالم اليوم أكثر منه في أي عهد انقضى رهين محابس الثقافة العلمية التكنولوجية التي تكاد تتحكّم بكل شأن من شؤون حياتنا اليومية فتملي علينا تصرفاتنا، وتتحكم بعلاقات الأفراد والشعوب والأمم. فقد عقد لواء الغلبة للمتفوق تكنولوجيا وتراجعت غلبة العدد، ووهَنت بطولة الزند، وغابت رومنسية السيوف خلف أزرار التّحكُّم الآلي الصغيرة... قد يكون الصلح الوافد إلينا في هذا الشرق الأوسط، في شطر كبير منه، وليد هذه الثقافة العلمية التكنولوجية التي حققت التفوق لفريق على فريق، فأفقنا على تحدٍّ عظيم ذي جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وقد كنا نعتصم منه وراء متاريس الحرب بثقافة ذات مناخ حربي، منذ ما يربو على نصف قرن، في توجه بين منها. أما وقد سقطت المتاريس، وانكشفت الساحة، وشرع بعض الـتـواصـل يحل محل التناحر، وأريد للحرب أن تُخلي مكانها لسلام مرتقب، فكيف نواجه الواقع الجديد؟ وكيف نتدبر ما يحمله إلينا من معطيات ثقافية وافدة ومستجدة؟
وقد يكون عهد السلام في الشرق الأوسط، إذا ما حلّ آمنا، أشدّ علينا، سياسيا واقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا، من عهد الحروب. وقد لا يكون إلّا بنسب متفاوتة في بعض هذه الميادين. إلّا أن الأمر الذي بدأ يتشكل يقينا هو أن تحدي السلام سيكون أشمل وأخطر - بالنسبة إلى بنى أوطاننا ومجتمعاتنا - من تحدي الحروب التي توالت علينا. فالحروب قد غطت الكثير من مساوئنا، وصانت العديد من مؤسساتنا إلى أجَل، وحدت من اجتياح رياح التغيير لما تعارفنا عليه فالفنا. أما وقد غدا التطبيع آية مرحلة السلام، فإنّ العصمة المزعومة لكل ذلك قد أخذت في الانحسار منذرةً بالتهافت.
منذ قرن، تقريبا، بينما كانت الإمبراطورية العثمانية قد ولجت مراحل انهيارها، وفي فترة الحرب العالمية الأولى وما تبعها من استعمار وانتداب في رقعة المشرق العربي وقيام دولة إسرائيل، ومن نفوذ عالمي متعدد الجوانب تاليا، حاول العرب التصدي لسيطرة الغرباء بمشروعات مختلفة كالخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية فالخلافة العربية ثم انتشرت النزعة القومية في ديارهم وإيران وتركيا ولدى فلول الشعوب والإمبراطوريات القديمة، وقامت دعوات إلى مختلف أنواع القوميات ترمي إلى تجسيد مضامينها فوق رقعة معينة من الأرض.
إلّا أن تيارين اثنين أساسيين بقيا على ساحة النضال الفكري والعملي: تيار العروبة في المفهوم القومي اللغوي - الحضاري الهادف الى تحقيق الأمة العربية، والتيار الإسلامي القائم على الرابطة الدينية والهادف لدى الإخوان المسلمين، إلى تحقيق الأمة الإسلامية. وخلال تلك الفترة من تشكّلنا السياسي، أخذ يتبلور في أذهاننا نظام الدولة - الوطن، فانصرفنا الى هضم مفهومه شيئا فشيئا في إطار معطى جديد يجمع بين الإرث الوطني وإرادة الحياة الوطنية المشتركة وقوام هذا المفهوم هو التوافق الحاضر والرغبة في الحياة معا، أي إقامة الوطن على عناصر معنوية وروح مشترك.
ومن نافل القول التذكير بأن الاعتبارات الثقافية كانت في صلب هذه المشروعات وما تزال متداخلة والمفاهيم الدينية، السياسية، الاجتماعية الاقتصادية، ومعتمدة على أرضية شعبية عريضة قام بينها وبين النخبة القيادية المثقفة تنافذ (Osmose) عاطفي فكري. إلّا أن الأمر بالنسبة للدعوة إلى حضارة متوسطية جاء مختلفا، إذ إنها كانت وقفا على شريحة نخبوية مثقفة تتوجه إلى الغرب من دون أن تُدير ظهرها الى الشرق.
إن مشروع الشرق الأوسط الجديد - وعلى هامشه شغل مصر «الأفريقية» بنفسها، وشلّ قدرات المغرب العربي - يهدف الى إقامة وضع جغراسي جديد.