د. عبد الحافظ شمص
الموت المتربِّص، والَّذي يُلاحق الانسان، يُذبل زهرة، لِتنبت مكانها زهرة أُخرى، غير عابئٍ بِما حَلَّ بالزَّهرة الطَّالعة من انقطاع عن نصفها الأَوَّل الَّذي أذبله الموت وغيَّبه في التُّراب، تاركاً إيَّاها لِأَجَلٍ محتوم.. وهكذا ينزل الضَّوء المذهَّب في عمق التُّراب وفي ظلمة الانقطاع ورأْسه على جبين الشَّمس..
وتصل الحلقة بالحلقة، لتكتب عبارات الحياة وعناوين الزَّمن...
لقد حضرتني هذه الكلمات الجامحة وغير المنضبطة بإيقاع العُرف والعادة والتَّقليد لدى سَماعي بنبأ رحيل الصَّديق العزيز والزَّميل الكريم الدّكتور بديع أَبو جودة، صاحب عشرات الكُتب الأَدبيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة والدِّينيَّة، ذلك الطَّائر الغرِّيد الَّذي أَعطى مِن قلبه وروحه أَدباً وحِكَماً هي في حساب الزَّمن منارات عظيمة.
انتقل إلى رياض الله، لينعم برحمته ورضوانه. كان سيِّد الكلمة وعميد الكُتَّاب، بل أَميرهم بلا منازع ومنذ أَكثر مِن ستِّين عاماً...
نكتب المرثيَّة ونحن نعيش في مجاهل الفكر ومطارح العتب ووهاد الأُميَّة والتخلُّف في هذا الزَّمن الرديء.. ولم نكن لنتخطَّى تلك المواجع لولا هبة الله ورحمته التي وسعت كلّ شيء، بموهبةٍ وعلمٍ غزير، اختارنا الله لنكون خُدَّاماً أَوفياء لها في حياتنا وبعد مماتنا...
الأَدب أَخلاق، والشِّعر أيضاً، علامات فارقة تنضوي تحت لوائها كلّ الفضائل التي تعارف عليها النَّاس منذ أَقدم العصور.. والأَدب ليس مادّة للتَّنظير ولا هو إضافة للا شيء، بل هو الأَساس لحياة كلّ عصر.
والمرحوم الدّكتور بديع أَبو جودة، صاحب الدّور المهم في مسيرة البناء الحضاري الأَمثل.. ولبنان، هذا الوطن المعذّب لا يتغنَّى بالنِّفط (قبل أَن يظهر الحديث عن وجود النِّفط)، ولا يباهي بالمواد الأَوليَّة الخام.. وإنَّما يتباهى بأُدبائه وشعرائه وَمُثقَّفيه الَّذين يضيفون إلى الحياة وإلى الواقع لمسات لا يمكن أَن يُضيفها أَو يجترحها إلَّا الأّديب أَو الشَّاعر...
كان رحمه الله أَوَّل القائلين: «اعطني بيتاً سعيداً وخُذ وطناً سعيداً...».
وإنَّ أَسعد النَّاس في الدُّنيا مَن أَعطاه الله عقلاً نيِّراً ورأْياً سديداً وأَدباً يُقرأ ويُحفظ ويُردّد في كلّ حين.
هذا الثَّائر المتكلّم، الهادر، بألفاظ متقاربة ومتألّقة كان يحرص على تردادها لِما فيها مِن متعةٍ للسَّمع والحسّ والذّوق.
الأَدب لا يموت، والأَديب أَيضاً لا يموت.. فيا فقيد الأَدب والحِكم والتَّاريخ، إليك نهرع وبكَ نستجير مِن الحاجة والوقوع في الخطأ ساعة الكلام عن أَديب أَو عن شاعِر، يَراعته لا تشبه إلَّا ذاتها وهي تقترن بالحقّ والصَّواب.. لقد رَبيتَ على السّنا الوضَّاء وعلى الصِّدق والصَّراحة والوفاء والسَّلام، كما على المصاعب والآلام والخوف مِن الآتي الَّذي يتمثَّل بغربة العالِم والأَديب في وطنه وفي الموت والانقطاع عن الذَّات وعن الأَحبَّة.
الذِّهن الوقَّاد والذَّاكرة المملوءة والمخزونة بالعلم والمعرفة، والمعروكة بالحساسيَّة، عنوان حياة المثقَّف والنَّابغة والمعلّم.. فكم مِن حكمة تناقلتها عنك الأَذهان والأَلسن فعاشت في النَّاس على الرُّغم مِن كلّ الصِّعاب التي تمرّ.. وكم مِن قَوْلٍ مأْثور بقي على الدَّهر يفيد مِن مآثره ومؤثّراته مَن يهتم بالعلم والأَدب وسِيَر الشُّعوب والحكَّام ورجال الكهنوت والَّتي لم تكن لتبقى وتستمر لولا أُولئك الَّذين أَغناهم اللهُ بالعلم والبراعة والموهبة والعطاء.
الكلمة الطَّيِّبة تُحيي في النَّفس مشاعر الفرح والسَّعادة والاطمئنان وتكسبها مناعة، لذلك كانت الكلمة في أَدب بديع أَبو جودة الَّتي نشأَ على ترنيمها وحفظها وتدرَّب عليها في «معهد الجودة» الآلاف مِن الطُّلَّاب والطَّالبات الَّذين برزوا في لبنان وتبوَّأُوا أَعلى المراكز، وكتبوا وأَدركوا قيمة الأَدب وأَهميَّة الأُدباء الَّذين فتحوا أَبواب السَّعادة والَّتي تغني المجتمع.
لك الله يا أَخي وأَنت الآن في رقادك الأَبدي في ملكوت السَّماء تتمتَّع برعاية الملائكة المقرَّبين وتستمتع بظلال الأَمن والأَمان في جنَّة عرضها السموات والأَرض، فاهنأْ بذلك أَيَّها الأَديب الكبير بصحبة مَن سَبقَك إلى الحياة الخالدة...
وتحيَّة خالصة وصادقة لرفيقة حياتك الصَّادقة والمؤمنة السيِّدة «مارسيل» ولِأَنجالك الأعزَّاء ولِعائلتك ولِزملائك وأَصدقائك الَّذين فجعوا بالخبر وبالمصاب الجلل، ونطلب إلى الله تعالى أَن ينعم عليهم بالصَّبر الجميل...