بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 تموز 2020 12:00ص الرائد العصامي الشيخ أحمد عباس الأزهري / 3 ... الدِّراسةُ في الأزهر

حكاية عن مرحلة وأجيال وليست أبداً حكاية عن شخص

الشَّيخ يوسف الأسير الشَّيخ يوسف الأسير
حجم الخط
غادَرَ «أحمد عبَّاس سليمان»، حِينَ كانَ في الخامِسَةِ عَشَرَةَ مِن سِنِيِّ عمره، مدينته بيروت سنة 1868، إلى القاهرة؛ ليتابعَ تحصيله العلميِّ في جامِعها الأزهر، بِدَعْمٍ مالِيٍّ متواضِعٍ تمكَّن تأمُينهُ من والده؛ وبِمنحةٍ دِراسيَّةٍ أَمَّنَها له الحاج «حُسين بَيْهُم»، مِنْ وَقْفٍ خصَّصَهُ «آل بَيْهُم» في بيروت، لِطَلَبَةِ العِلْمِ مِن أبْناءِ المَدينة.

أَمْضَى «أحمَد عبَّاس» أوَّل سَنَتَينِ لَهُ مِن الدِّراسةِ في «الجامِع الأَزْهَر»، في «القاهرة»، فَرِحاً بِما كانَ يُحَصِّلُهُ مِن معارف، وسَعيداً بإقامةٍ كريمةٍ تَسَنَّت لهُ في «أمِّ الدُّنيا»، ومجاورةٍ لعِلماء ودارِسينَ مِن ناسِها والوافدينَ إِلَيْها. نَجَح الفتى الطَّموحُ في تحدي العَوزِ الماليِّ، في بيروت؛ وأَفْلَحَ في تجاوزِ صعوباتِ الغربةِ في القاهرة، وأَغَذَّ سَيْراً في مسالِكِ المعرِفَةِ ومعارِجِ العِلمِ التي كانَ عليهِ الخوضَ فيها في مطلع مراحلِ دراستِهِ «الأَزهرِيَّة». وكانَ للطَّالب الطَّامِحٍ إلى العُلا، أن يعودَ، بعدَ سنتين متوالِيَتَينِ من هذا، في إجازةِ العُطلةِ الصَّيفيَّة لسنة 1870، وقد بلغ السَّابعة عشرة من العمر، إلى مدينته بيروت.

مِنَ الطَّبيعيِّ، أنْ يكون الطَّالِبُ الأزهريُّ «أحمد عبَّاس» قد اغتبطَ بلقاء وَالِدَيْه وأخوتِهِ في بيروت؛ كما أنَّه سعدَ بإخبارِهِ لأساتذته فيها، حين التقاهُم، عمَّا حَصَّلَهُ مِن علومٍ واكتسبهُ مِن معارِفَ وعاينهُ مِن خُبُراتٍ في دراسته الأزهريَّة. وكانت زيارة موسمِ العطلةِ الصَّيفيَّةِ هذه إلى بيروت، مناسبةً أُخرى أثبتَ فيها «أحمد عبَّاس» إصراره على الإقبال المستمر على تحصيل المعارف، إذ خصَّص وقتاً، خلال إقامته القصيرة في بيروت مع ذويه، لمتابعة دروس في المنطق والأدب على، كبيرٍ من علمائها، هو الشَّيخ «يوسف الأسير» (1817-1889).

عاد «أحمد عبَّاس سُليمان» إلى القاهرة، خريفَ سنة 1870،؛ ليتابع دراساته في جامعها الأزهر؛ وما أن مضت ثلاثُ سنواتٍ، وكان حينها في السَّنة ما قبل الأخيرة من سنوات الدِّراسة، حتَّى وصلهُ، من بيروت، نبأ نَعْيِ والدهِ؛ فما كانَ على هذا الطَّالب، آسِفاً، أن يواجِه تحدِيَّاً جديداً وصاعِقاً يخترِق مسيرتهُ العِلميَّةِ في «الأزهر»، وربما يكون مُحْبِطاً لجميع آمالِهِ في متابعةِ ما تبقَّى لهُ مِن هذهِ الدِّراسَةِ وإتمامِها، والعودةِ إلى مدينتهِ بيروت، مِن ثَمَّ، شَيْخَاً أَزْهَرِيَّاً، بِكُلِّ ما لِهذِهِ «المَشْيَخَةِ»، عِنْدَ ذويهِ وأساتِذَتِهِ وناسِه في بيروت، مِنْ قِيمةِ عِلْمِيَّةٍ، وما يُمكنُ أَنْ تُشَرِّعُهُ لِصاحِبِها مِن آفاقِ العَمَلِ الكَريمِ والنُّهوضِ السَّامي.

يبدو أن المَدَد المالي، الذي كانت توفِّره منحةَ «آل بيهم»، للطَّالبِ الأزهريِّ «أحمد عبَّاس سُليمان»، ما عادت تكفي، إثر انقطاعِ الرَّفد الماليِّ مِنْ والِدهِ، لِسَدادِ ما يجبُ مِن مُسْتَلْزماتِ الدَّرسِ والإقامةِ في «القاهرة»؛ والظَّاهِرُ أنَّ ما مِنْ جِهَةٍ، في القاهرةِ، تمكَّنت مِن تقديمِ أيَّ إِنْجَاد لهذا الطَّالِب. لقد التَأَمَ شملُ جَحيمُ الفاقَةِ مع ضَنَكِ الحِرمانِ وشقاءِ الوحدة في الغربة، في مُجَابَهَة طموحات الطَّالب الأزهريِّ الشَّاب؛ فلم لم يكن أمامه، والحالُ كذلك، سوى قَطْعِ دراستهِ الأزهرِيَّةِ، وإن كانت في مرحلتها الأخيرة؛ والعملِ، مِنْ ثمَّ، تَعجيل الرُّجوعِ إلى بيروت؛ وتعزيز الظَّنِّ الشَّخصيِّ بأنَّ عائلته في بيروت، قد تكون بحاجة ماسَّةٍ إلى وقوفه إلى جانبها، بعد أن فقدت مُعِيلِها الأكبر.

لَمْلَمَ «أحمد عبَّاس»، وقد بلغ العشرين مِن سِنِيِّ العُمر، سنة 1873، ما خالَهُ قد صار أطلالَ طموحه في اكتساب «الشَّهادةِ الأزهريَّة»، فالْتَقَطَ ما استطاعَ وضعهُ في حقيبةِ السَّفرِ مِنْ كُتُبِهِ وأوراقه وسائر حاجيَّاته، وأمسَكَ بالأغلى من ذكرياتِهِ، وقد ضمَّها، في باقةِ حُزْنٍ وأسى، إلى الأجمل من طموحاتِه المُنْكَسِرَةِ وآلامِهِ المُتَعاظِمَةِ، وغادر «الجامع الأزهر»، ورَحَلَ مُحَطَّمَ الكيانِ عن القاهرة، عن «أمُّ الدُّنيا». تَوَجَّه الشَّابُ، المكروبُ؛ بكلِّ ما في وُجْدانِهِ، لَحْظَتَذاكَ، مِن بؤسٍ وحُزنٍ وفَجيعَةٍ، إلى ثَغْرِ «الاسكندريَّة»؛ لِيُسافِرَ مِن هُناكَ، بالباخِرَةِ المتوجِّهة إلى مرفأ بيروت.

وإلى اللِّقاء مع الحلقةِ الرَّابعة: أزمةٌ في الإسكندَرِيَّة

------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي