بيروت - لبنان

15 أيار 2018 12:45ص الروائي العراقي سعد محمد رحيم لــ «اللواء»: من عاش حرباً ستزوره كوابيسها حتى الرمق الأخير

حجم الخط
قرأت روايته «فسحة للجنون»  وازداد فضولي لمعرفته ومحاورته،  بل!  حتى لاستضافته في طرابلس ضمن ندوة كانت مقررة في شهر تشرين الثاني لمناقشة روايته التي تناولتها في مقال تم نشره سابقا،  وحقيقة لا اعرف لماذا تأخرت لاشهر في نشر حواري هذا  معه ربما! لأننا لا نفكر بالموت الذي يخطف الانفاس بسرعة الضوء لاستفيق ذات صباح على صدمة رحيل الروائي «سعد محمد رحيم»  الذي ابكاني ووضعني تحت صدمة استوقفتني فترة من زمن امام هذا الحوار الذي وضعه بين يدي ليتم نشره في جريدة «اللواء» تحديدا لمحبته للبنان ومعالمه الاثرية التي احبها حتى شعرت انه لم يرحل،  بل! بقي في اعمال ادبية تجسد مدرسة روائية لاديب وروائي استطاع اختزال الجملة، ومنح القارىء قدرة على رياضة ذهنية في فن روائي يدركه النقاد الذين لو وضعوا اعمال «سعد محمد رحيم» رحمه الله  تحت الضوء الفعلي للنقد الادبي والفكري لوجدوا انه ابتكر اسلوبا روائيا يمكننا من خلاله تعليم فن كتابة الرواية التي تحاكي مرونة الجملة، وقدرتها على الاختصار الثلاثي المبتكر والمتمسك بالفراغات التخيلية التي تسمح بتوسيع افق الرواية، وبتشويق لا يفقدها الترابط والتناغم والسلاسة. لهذا اقول عذرا ايها الروائي الذي جعلني اتمسك بهذا الحوار واقرأه الف مرة قبل ان ارسله للنشر لان موتك صدمني رغم انك الحي في وعي اعمالك الادبية والروائية،  ومع الروائي «سعد محمد رحيم» اجريت هذا الحوار واسمحوا لي نيابة عنه ان اشكر جريدة «اللـــواء» لنشرها هذا الحوار الحي مع روائي خطفه الموت ومنحنا وعيه الروائي...  
{ ماذا عن روايتك (فسحة للجنون)، وما الذي أردت قوله فيها؟
- هذه الرواية أعوِّل عليها كثيراً. وأرجو أن يجد القراء فيها ما أردت أن أقوله حقاً. هي شهادة عن حقبة من منظور آخر، وهي تجربة مختلفة تحكي عن شخصية استثنائية قاومت الحرب بالجنون.. احتجّ بالجنون على الاستبداد وروح القسوة والعنف والكراهية، وأدرك شناعة المأساة المقبلة قبل أن يفطن إليها الآخرون.. تمثِّل (فسحة للجنون) صرخة الحياة الأليمة والعارية ضد قوى الظلام والحقد والموت. وبطلها (عامر) أو (حكمت) كما زعم بعد تحوّله الدراماتيكي، يقدِّم صورة مكثفة للعراقي المبتلى بظروف قاهرة، وللإنسان الذي يثبت خصاله الإنسانية بالحب على الرغم من كل شيء. 
{ تتميز روايتك بدقة الملاحظة في التفاصيل. هل منحتها ذلك لاحتياجات روائية أم من أجل رؤية خاصة؟
- التفاصيل ضرورية لمنح الرواية بعدها الواقعي وجعلها مقنعة. لكنها تكشف أيضاً دواخل الشخصيات التي تعيش معها وتنظر إليها وتتحسسها.. لا أكتفي بالوصف المجرد، بل أعرضها عبر عين راءٍ وحواسه.. للتفاصيل عندي وظيفة بنائية في السرد شكلاً ومتناً.. وكانت تتلخّص رؤيتي في أن أفضح القبح من منظور جمالي خاص. 
{ المشهد في الرواية محكم البناء لماذا أخذت دور العين السحرية المتحركة؟
- أفكر بهارمونية بناء الرواية.. بتوازنات عناصرها، وبإيقاعها الداخلي.. وكل مشهد لابد من أن تتعاشق مع المشاهد الأخرى بانسجام كما هو الحال في السمفونية أو في فن العمارة.. لا أحب الزوائد التي تثقل النص. أما الفراغات التي أتركها لفطنة القارئ فأسعى كي تكون جزءاً من جمالية النص.. ويسعدني أنكِ اكتشفتِ لا المشهد فحسب وإنما العين التي تراه كذلك. وأظنني استفدت في هذه الرواية من تقنيات السينما في تصوير الأحداث وحركة الشخصيات وعلاقاتها، والتعاطي مع زمن السرد، وبهذا، كما أعتقد، ضمّنت شرط المتعة في أثناء القراءة
{ تفاصيل اجتماعية حتى في الخوف على الحيوانات من الحروب وموت يا حمار لمن يجيك.... متعة أم بذخ أم هو الحس الإنساني لحقوق المخلوقات كاملة؟
- لسنا وحدنا على هذا الكوكب.. ويقيناً، ألحقنا نحن البشر دماراً هائلاً ببيئتنا وبيئة الكائنات الأخرى.. والحروب لا تفتك بالبشر فقط وإنما بالمدن والأنهار والأشجار والحيوانات كذلك، وقد رأيت ذلك بأم عيني.. وكما ترعبنا الحرب وتقتلنا فإنها ترعب كل ما هو حي وتقتله في الوقت نفسه.. وشخصياً أرى أن دفاعنا عن حق الإنسان في الحياة يجب أن يوازيه دفاعنا عن كل ما يوجد ويعيش معنا.. والرواية وسيلة إبداعية لنفصح عن احتجاجنا على قتلة الحياة والجمال. 
{ تفاصيل دقيقة لم تتركها بل منحتها صورة المشهد كاملة.. قد لا يتقبل القارئ كل هذا، ما رأيك؟
-  الوصف عندي يُنسج مع حركة الشخصيات ومع التصعيد الدرامي للأحداث. فلست أميل إلى الوصف المجرد الذي يبعث على الملل.. الشخصيات في رواياتي لا تتحرك في فراغ وإنما في محيط طبيعي واجتماعي.. ولكي يقتنع القارئ بما يقرأ لا بد من إشارات لأشياء ذلك المحيط تجعل المشهد حيّاً.. ولا أعتقد أن هناك وصفاً مسهباً يستغرق نصف صفحة من غير أن يتخلله فعلٌ ما.
{ الحرب هاجعة في هذه الساعة ومعايير لحرب واحدة تكررت صفاتها متى نغادر عربيا روايات الحروب؟
- غالباً ما ترسم الحروب أقدارنا، وطبيعة شخصياتنا ورؤانا إلى الوجود وكوننا النفسي والاجتماعي، وإذاً كيف لنا أن نتحدث عن أي شيء إن لم تحضر الحرب على خلفية المشهد.. كيف لنا أن نحب ونعمل ونلعب وننام ونصحو متجاهلين رماد الحرب الذي يلتصق بجلودنا وزجاجات نوافذنا. من عاش حرباً ستزوره كوابيسها حتى الرمق الأخير.  
{ هل اختصرت الجمل ورتبتها لتكون مهيأة للترجمة بشكل صحيح دون أن تفقد المعنى؟
- حين أكتب لا أفكر بشيء.. لا بترجمة ولا بجائزة قد ينالها عملي، كما لو أن شخصاً آخر يكتب لاهياً من خلالي.. وحين أراجع جدّياً ما كتبت لا أفكر إلا بقارئ مثالي، ناقد، مدقق، وقح وساخر يحصي عليّ إخفاقاتي وزلاتي. ولذا تصبح معي المراجعة مرهقة مؤلمة وطويلة.. قد تعجبين إن قلت لكِ إنني أقرأ العمل الروائي قبل نشره أكثر من ثلاثين مرّة.. وفي كل مرّة أغيّر.. أضيف وأشطب وأرمم وأبحث عن الإيقاع.. حينها أرى روايتي معروضاً أمامي كما لو على شاشة كبيرة، وأسمع الجمل كأنها ملحّنة.. لذا أي اختلال سرعان ما أشعر به، وأكاد أبكي إنْ لم أفلح بمعالجته. أبحث عن التناسب بين الجمل القصيرة والجمل الطويلة.. وطول الجملة تقتضيه طبيعة المشهد الروائي وإيقاع حركته. 
{ «لا مطابخ عامرة في البلدة لتحتال القطط على ربات البيوت وتسرق منهن قطع اللحم المعدة للطبخ» ألا تظن أن هذه الجملة اختصرت المعاناة في  الرواية؟
- ربما.. لا أدري.. هذا اجتهادكِ وتأويلك في القراءة.. وأعترف أن اختيارك لهذه الجملة ذكي ولافت.. وهي تشير إلى نزوح سكان البلدة وخلو الحياة في بيوتها بسبب الحرب، وإلى جوع الحيوانات التي لم تعد تجد شيئاً لتأكله.. لاحظي أن في هذه الجملة نبرة ساخرة.. وتبقى منطقة الرواية، كما تعلمين، أوسع من أن تختصر في مشهد واحد، ففي كل بقعة منها خزين دلالات ينتظر حذاقة القارئ للكشف عنها.

dohamol@hotmail.com