هل الظروف المعيشية وضغوطها والواقع السياسي بما فيه هو ما دفع بعشرات ومئات الآلاف من اللبنانيين بالنزول إلى الساحات في حراك مستمر منذ أكثر من شهر؟!..
وهل الأسباب محصورة في ذلك؟!..
من المؤكد ان ما ذكر هو أسباب دافعة وأساسية، ولكن ما نسمع ونشاهد يفرض التوقف عند أسباب أخرى قد تكون من الأهمية بمكان..
أسباب على ارتباط مباشر وعضوي بالمخزون الثقافي المتراكم عبر مدة طويلة لعبت في صنعه عناصر عديدة جعلت من الحراك بهذا الكم، وهذا التصرف النوعي من حيث السلوك الاحتجاجي الذي تميّز حتى الآن بميزة حضارية لم نشاهدها في تحرّكات احتجاجية عديدة عمَّت وتعمُّ المنطقة منذ مدة ليست بقصيرة.
المخزون الثقافي يتشكّل عبر مسالك عدة نذكر منها التربية والتعليم، فعلى الرغم من كل ما يساق للدلالة على شوائب التعليم في لبنان إلا انه بصورة عامة حالة متقدمة على مثيلاتها في المنطقة، ففي المناهج التعليمية الكثير من الانفتاح على ما جرى ويجري في العالم وهذا بحد ذاته لبنة في بنيان مخزون ثقافي في مرحلة مبكرة.
هذا... بالإضافة إلى الإعلام بكافة أشكالها من مرئي ومسموع ومطبوع الذي جعل من مفهوم الحرية أساساً ثابتاً في المخزون الثقافي.
محاولات كثيرة جرت في الكثير من أقطار العالم العربي لمماشاة وتقليد الإعلام في لبنان بعضها نجح نسبياً وان لم يصل إلى المستوى الموازي... وبعضها الآخر راوح مكانه لارتباط معظمه بالأنظمة الحاكمة لينطق بلسانها وليس بلسانه وفي هذا من القيود الكابحة من الارتقاء إلى مصافي الوضع المطلوب.
إذا أضفنا إلى ذلك ثورة الاتصالات وعلى رأسها (الانترنت) نستطيع فهم كيفية ولادة ثقافة مستجدّة تضاف إلى كل ما سبق ولتكون سبباً في كل ما يجري.
فعندما تنقل لنا صورٌ عن محاكمات مسؤولين كبار في العالم نتيجة ارتكابات مخالفة للقانون يستطيع المخزون الثقافي استثمارها أفضل بكثير من المخزون الأقل استيعاباً وقدرة.
وناحية أخرى مهمة هي تعامل السلطات مع الظاهرة أو بالأصح الحدث فعلى الرغم من كل ما يساق ضد أجهزة الأمن خلال تعاملها مع هذا الحراك إلا انه لم يخرج عن الأصول المتبعة في أرقى بلدان العالم..
ويكفي أن ننظر حولنا لنكتشف الفارق الكبير بين أنهار الدم والمعتقلات والتهديد بالهراوة دون استعمالها.
خلاصة الأمر ان الحراك راقٍ بطابعه الحضاري حتى الآن ومرشّح للاستمرار بهذا الطابع على الرغم من بعض الأخطاء التي لا بد من حصولها في مثل هذه الحالات.
ولكن المخزون الثقافي هو (المكابح) التي تحول دون تفاقم الوضع واتجاهه نحو الاسوأ، وفي هذا ما يبعث على طمأنينة كم نحن بحاجة إليها.